نحن مع غزة
أهلا و سهلا بكم في مدونة أعلام الجزائر والتي أردنا من خلالها جمع تراجم وسير علماء الجزائر وفقهائها ومصلحيها ... فطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة مقعدا ونرحب بنقدكم وتقييمكم وتقويمكم . . ::......... ..

الأحد، 19 يوليو 2009

الشيخ الفضيل الوتيلاني


بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ الفضيل الورتيلاني
الشخصية في سطور:
ولد "الفضيل الورتلاني" في الجزائر سنة 1323هـ = 1906م.
نشأ في أسرة كريمة، وحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة.
تلقَّى تعليمه في المدارس التي افتتحها المصلح الجزائري "عبد الحميد بن باديس" في مدينة قسنطينة.
أوفده "ابن باديس" إلى فرنسا ليكون مندوبًا عن جمعية علماء المسلمين بالجزائر.
أقام في باريس عامين نجح خلالهما في إنشاء النوادي لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي، ومحاربة التحلل الخلقي في صفوف المغتربين الجزائريين.
هاجر إلى القاهرة سنة 1939م، وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وصار من أعضائها البارزين.
سافر إلى اليمن وكان وراء الحركة الدستورية التي أطاحت بحكم الإمام يحيى، لكن الحركة لم تنجح، وحُكِم على زعمائها بالإعدام.
هرب "الفضيل" من الحكم بالإعدام وتنقَّل بين عدة دول أوربية حتى استقر في بيروت.
رجع إلى القاهرة بعد قيام حركة الجيش المصري سنة 1952م، ولم تطل إقامته بها فغادرها سنة 1955م إلى بيروت؛ بسبب الأوضاع السيئة في البلاد.
وفي أثناء إقامته بالقاهرة قام بالتعريف بقضية بلاده التي تحتلها فرنسا وترتكب فيها أبشع الجرائم.
توفي الفضيل الورتلاني سنة 1378 هـ = 1959م.



• الفضيل الورتلاني:

(1323 – 1378 هـ = 1906 – 1959م)

هناك نماذج قليلة من أبطال التاريخ من صنعت تاريخًا وأقامت دولاً، وأحيت نفوسًا دون أن يكون لها سند من منصب أو مال أو سلطة وأعوان، وإنما تملك مواهب نادرة من التأثير النافذ في القلوب والقدرة على التنظيم الدقيق، وحسن اختيار الأنصار، وتحمل المشاق دون تعب وكلل، ومن هؤلاء مؤسسو دول مثل "عبد الرحمن الداخل" الذي فر هاربًا من العباسيين، وانتقل من بلد إلى آخر متنكرًا؛ حتى استقر في الأندلس، ونجح أن يقيم الدولة الأموية في الأندلس، ومنهم أصحاب الدعوات ورجال الإصلاح مثل: "جمال الدين الأفغاني" الذي أحيا النفوس، وأيقظ القلوب الغافلة ونبَّه النائمين، وأوقد شعلة الحرية أينما حلَّ في العالم الإسلامي، والإمام الشهيد "حسن البنا" الذي قرن القول بالعمل، ومزج بين الدعوة والتطبيق، وجمع الناس حول الإسلام، وكشف لهم عما غاب عنهم في حياتهم، وقد جذبت شخصيته الفذة عددًا من النابغين فالتفوا حوله وتأثروا به، وكان من بينهم "الفضيل الورتلاني" وهو مصلح جزائري قدم إلى القاهرة، واتصل بجماعة الإخوان المسلمين، وصار من أعضائها، وكان قويَّ التأثير فيمن حوله، قادرًا على التغيير في أي مكان يحلّ به، لمَّاح الذكاء، سريع الحركة، كثير المعارف، يرى العالم الإسلامي كله وحدة لا تتجزأ، وأنه مطالب بتحرير كل جزءٍ منه.



• النشأة والتكوين:

ولد "إبراهيم بن مصطفى الجزائري"- المعروف بـ"الفضيل الورتلاني"- في 11 من ذي الحجة 1323 هـ = 6 من فبراير 1906م" في بلدة بني ورتلان شرقي الجزائر، وإليها انتسب، وجاءت شهرته بالورتلاني، ونشأ في أسرة كريمة لها اتصال بالعلم، فجدُّه الشيخ "حسين الورتلاني" كان من العلماء المعروفين في منطقته.

ومثل غيره من طلبة العلم حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودرس علوم اللغة العربية على علماء بلدته، ثم انتقل إلى مدينة قسطنطينة حيث استكمل دراسته على يد العلامة الشيخ "عبد الحميد بن باديس" الذي أسس جمعية علماء المسلمين الجزائريين سنة 1350 هـ = 1931م، وأقام حركة علمية، وأنشأ سلسلة من المدارس، وأيقظ الوعي في نفوس الجزائريين.

وفي مدرسة "ابن باديس" تلقى دروسه في التفسير والحديث والتاريخ الإسلامي، والأدب العربي، وتأثر بشيخه المصلح الكبير وبطريقته في الإصلاح، وغيْرته على المسلمين.



• الرحلة إلى باريس:

ولم يكن الشيخ "ابن باديس" يقصر دعوته على إصلاح حال الجزائريين في بلادهم، بل امتد بصره إلى المغتربين في فرنسا من الجزائريين، ورأى أن من أوجب واجبات الجمعية أن تحمي إسلام هؤلاء من الضياع، وأن تتولى تربية النشء الجديد قبل أن تلتهمه الحياة الفرنسية، ونظر حوله فلم يجد أكفأ من "الفضيل الورتلاني" للقيام بهذه المهمة الشاقة التي تتطلب؛ إيمانًا بالقضية وإخلاصًا لها، ورغبة في الإصلاح والتغيير.

نزل "الفضيل" فرنسا سنة "1355 هـ = 1936م" مبعوثًا عن الجمعية، وأقام في باريس، وبدأ نشاطه المكثف بهمة عالية، واتصل بالعمال والطلبة الجزائريين بفرنسا، وأخذ في إنشاء النوادي لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي ومحاربة الرذيلة والانحلال في أوساط المسلمين المقيمين بفرنسا، واستطاع خلال عامين أن يفتح كثيرًا من النوادي الثقافية في باريس وضواحيها وبعض المدن الفرنسية الأخرى.

وانتهز فرصة وجوده في باريس فاتصل بالدارسين العرب في الجامعات الفرنسية، وتوثفت بينهم المودة والصلة، مثل العلامة "محمد عبد الله دراز" صاحب كتاب (دستور الأخلاق في القرآن الكريم)، والشيخ "عبد الرحمن تاج" الذي صار شيخًا للأزهر، والعلامة السوري "محمد عبد القادر المبارك"، والشاعر "عمر بهاء الدين الأميري".

وقد أقلق هذا النشاط السلطات الفرنسية فضيقت على "الفضيل الورتلاني" حركته، وجاءته رسائل تهدده بالقتل، فاضطُّر إلى مغادرة فرنسا إلى إيطاليا ومنها إلى القاهرة.



• نشاطه في القاهرة:

نزل "الفضيل" إلى القاهرة سنة 1358 هـ = 1939م، وكانت آنذاك تموج بحركة إسلامية نشطة يقوم عليها الإمام "حسن البنا"، فاتصل به "الفضيل الورتلاني" وكان الإمام "البنا" يقدِّر جهود الشيخ "ابن باديس"، ويتابع جهوده في الجزائر، وبلغ من إعجابه به "أنه حين أسس مجلة فكرية أطلق عليها "الشهاب" تيمُّنًا بمجلة "الشهاب"- التي أصدرها الشيخ "ابن باديس"-، وسرعان ما توثقت الصلة بينه وبين الإمام "حسن البنا"، وانتهت بانضمام "الفضيل الورتلاني" إلى جماعة الإخوان، وصار عضوًا بارزًا بها؛ نظرًا لملكاته الخطابية وقدرته على الإقناع، وكان من تقدير الإمام البنا للورتلاني أنه كان ينوب عنه حين يكون غائبًا عن القاهرة في إلقاء حديث الثلاثاء بالمركز العام لجماعة الإخوان.

ولم ينس "الفضيل" العمل من أجل بلاده التي ترسف في أغلال المحتل الفرنسي، فقام بجهود جبارة للتعريف بقضية الجزائر وبطش الاستعمار بها، وفي سبيل ذلك شارك في تأسيس عدة جمعيات خيرية وسياسية، مثل: اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، وجمعية الجالية الجزائرية سنة 1361 هـ = 1942م، وجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا سنة 1363هـ = 1944م، وكان هو أمينها العام، وضمَّت في عضويتها الشيخ "محمد الخضر حسين"، والأمير "عبد الكريم الخطابي المغربي".

وقد أثمرت جهود "الورتلاني" فأصبحت قضية الجزائر من المحاور الرئيسية في الخُطَب والمحاضرات والندوات، وتبرَّع الناس بأموالهم لمساندة المجاهدين في الجزائر.



"الفضيل الورتلاني" يحرِّك الثورة في اليمن:

وامتد نشاط "الورتلاني" إلى مساندة الأحرار في اليمن، وكانت البلاد تموج بحركة معارضة قوية، ورغبة طموحة في الإصلاح والتغيير، وكان الإمام "البنا" على علم بما يجري في اليمن، ومِن تطلُّع إلى الخروج بالبلاد من عزلتها وفقرها وجهلها، فأوفد "الفضيل الورتلاني" إلى هناك.

وكانت المعارضة شديدة، وتضم بعض أبناء البيوتات الكبيرة، لكنها كانت بلا تنظيم، واتجاهات زعمائها مختلفة، والراغبون في الإصلاح لا تجمعهم رابطة، فلما نزل "الفضيل الورتلاني" اليمن سنة 1366 هـ = 1947م نجح في توحيد صفوف المعارضة، وإزالة الخلاف بينهم، وبدأ في تهيئة الناس للتغيير بخطبه الحماسية التي تلهب المشاعر وتوقد الحماسة في الصدور.

وفي ربيع الآخر 1367 هـ = فبراير 1948م نجحت المعارضة في الوصول إلى الحكم بعد إزاحة الإمام "يحيى"، وأخذت البيعة لـ"عبد الله بن الوزير" زعيم المعارضة، وتولى "جميل جمال"- وهو عراقي الجنسية- قيادة الجيش والشرطة والداخلية، وتشكل مجلس للشورى، يتكون من60 عضوًا من أبناء الأسرة الحاكمة والبيوتات الكبيرة في اليمن، كما اشترك فيه "الورتلاني"..، الأمر الذي يدل على أن اتجاه حركة المعارضة كان عربيًا إسلاميًا، وحاول القائمون على الحركة الحصول على تأييد الجامعة العربية والاعتراف بشرعيتهم في الحكم، لكن مجلس الجامعة التزم الحياد في هذا النزاع، وقرر عدم السماح لأية دولة عربية أو أجنبية بالتدخل، وأرسل وفدًا لتقصِّي الحقائق.

وأرسل "ابن الوزير" وفدًا برئاسة "الورتلاني" لإقناع "ابن سعود"- ملك السعودية- بالاعتراف بالحركة، لكن الملك رفض الاعتراف، ووقف إلى جانب "أحمد بن الإمام يحيى" ولي العهد.

واستطاع ولي العهد أن يجمع حوله جيشًا قبليًا كبيرًا العدد، وأن يهزم أنصار الحركة الثورية، ولم يحلّ 3 من جمادى الآخر 1367 هـ = 14 من مارس 1948م حتى كانت صنعاء قد استسلمت دون مقاومة كبيرة، ولم يزد عمر الحركة عن بضعة وعشرين يومًا، وقد أعدم كثير من زعماء المعارضة، ونجح "الورتلاني" في الهرب من اليمن بعد أن صدر الحكم بإعدامه، وتنقل في عدة دول أوربية، ورفضت الدول العربية استقباله حتى وافقت لبنان على استقباله، شريطةَ أن يكون الأمر سرًا.



• العودة إلى مصر:

وبعد قيام حركة الجيش بالإطاحة بالملك "فاروق" عاد "الورتلاني" إلى مصر بعد غياب عدة سنوات، واستقبله العلماء والسياسيون استقبالاً حسنًا؛ نظرًا لماضيه المشرِّف في الجهاد، وحيَّاه الشاعر الكبير "علي أحمد باكثير" بقصيدة، منها:

أَفُضيْلُ هَذِي مصرُ تَحتفِل بِلِقاكَ فانعَم أيُّها البَطَـل

أَمْسَيتَ لا أهل ولا وطن وغدوت لا سفر ولا نزل

لم تقترف جرمًا تدانُ به كلاَّ ولكنْ هكذا البـطل

وعاد "الفضيل" إلى جهاده، ومؤازرة الثورة الجزائرية التي اشتعلت على أرض بلاده في سنة 1374 هـ = 1954م، وأصدر بيانًا مع المجاهد الكبير الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي"- رئيس جمعية علماء المسلمين- بعنوان: "نُعيذكم بالله أن تتراجعوا"، وشارك في تأسيس جبهة تحرير الجزائر سنة 1375 هـ = 1955م، وكانت تضم الشيخ "الإبراهيمي"، وممثلي جبهة التحرير مثل "أحمد بن بيلا" و"حسين آية أحمد"، وبعض ممثلي الأحزاب الجزائرية.

ولم تَطُل مدة إقامة "الفضيل الورتلاني" بالقاهرة، فقد غادرها إلى بيروت سنة 1375هـ = 1955م، وكانت الأمور في مصر تسير نحو الاستبداد بعد أن انفرد "جمال عبد الناصر" بمقاليد الأمور، وألقى بأعضاء جماعة الإخوان في غياهب السجون.



وفاته:

كان "الورتلاني" من الرجال الذين تشغلهم القضايا الكبرى عن نفسه، وربما وصل الليل بالنهار في عمل دائم، دون أن يذوق طعامًا، شأنه في ذلك شأن أصحاب الدعوات، وقد أدى ذلك إلى اختلال في صحته، وتعرُّضه لأمراض خطيرة، لكنَّ ذلك لم يمنعه من الحركة والعمل في سبيل الدعوة، حتى لقي ربه في إحدى مستشفيات مدينة "أنقرة" في 2 من رمضان 1387 هـ = 12 من مارس 1959م، ثم نقل رفاته بعد سنوات ودفن في مسقط رأسه بالجزائر.



• أهم المراجع:
محمود عبد الحليم – الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ – دار الدعوة – الإسكندرية – 1979م.
فتحي يكن وآخرون – الموسوعة الحركية – مؤسسة الرسالة – بيروت – 1400 هـ = 1980م.
عبد الله العقيل – من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة – مكتبة المنار الإسلامية – الكويت – 1422 هـ = 2001م.
صلاح العقاد – المشرق العربي المعاصر – مكتبة الأنجلة المصرية –القاهرة–1979م.


الخميس، 16 يوليو 2009

الشيخ المصلح عبد الحميد بن باديس


بسم الله الرحمن الرحيم

الشيخ عبد الـحميد بن باديس


ولد عبد الـحميد بن باديس، رئيس جمعية العلـماء الـمسلـمين الـجزائريين وأحد أعلام الـحركة الإصلاحية الإسلامية في الـجزائر خلال النصف الأول من القرن العشرين، يوم 5 ديسمبر 1889 بقسنطينة حيث وافته الـمنية يوم 16 أبريل1940 ، كان ينحدر من عائلة عريقة تعود أصولها إلى بني زيري .وبلوغين بن زيري، مؤسس الـجزائر العاصــمة، أحد أشهــر أعضــاء هــذه العائلــة الأميرية. و قد حفظ عبد الـحميد بن باديس القرآن في مسقط رأسه، وفقا للـمناهج التقليدية، كما تعلـم قواعد اللغة والأدب العربي وأصول العلوم الإسلامية.


وقد أوكلت مهمة تعليمه وتهذيبه، وهو لا يزال طفلا، إلى حمدان لونيسي، وكان من أتباع الطريقة التيجانية الصوفية، وكان تأثيره عظيـما مستديـما على الشيخ بن باديس. هذا الأخير، الذي انتسب، ابتداء من سنة 1908 ، إلى جامعة الزيتونة، بتونس، تأثر هناك كذلك، بأساتذته خاصة منهم الطاهر بن عاشور، من أتباع الـحركة السلفية الإصلاحية الداعية إلى العودة إلى إسلام مطهر من كل ما شابه من شوائب وهي الـحركة التي انتشرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الشرق الأدنى وفي مصر. وبعد حصوله على الشهادة سنة 1912، مارس عبد الـحميد بن باديس التعليم بالزيتونة لـمدة سنة، وفقا لـما كان متعارفا عليه في هذه الـجامعة التونسية.

بعد أدائه مناسك الـحج بـمكة الـمكرمة والـمدينة الـمنورة، حيث توجه إثر انتهاء دراسته في تونس، تعرف عن كثب على حركة الوهابيين الإصلاحية الـمتشددة وهي في أوج انتشارها بالبقاع الـمقدسة. واجتـمع مجددا، خلال إقامته بالـمدينة الـمنورة، بحمدان لونيسي، أول أساتذته، الذي انتقل للإقامة بـمدينة الرسول صلى الله عليه وسلـم، حيث باشر تعميق معارفه على يديه وعلى يد أساتذة آخرين.

بعد عودته إلى الـجزائر، امتهن بادئ الأمر، من سنة 1913 إلى سنة 1925، التعليم والتنشيط الثقافي، قبل أن يكرس طاقته ويوجهها لإصلاح الـممارسات الدينية السائدة في البلاد. وخلافا للرأي الذي أشاع له مؤرخون وناشرون، فإن الـحركة الإصلاحية الدينية في الـجزائر لـم تولد من العدم على أيدي ابـن باديس ورفاقه.

ذلك أن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قد شهدتا بروز مفكرين إصلاحيين تـمثلهم مجموعة من العلـماء والأساتذة الـمقتدرين بالـجزائر العاصمة وقسنطينة وتلـمسان وغيرها، من أمثال الشيخ مجاوي والشيخ بن سماية والشيخ بن على فخار، الذين أدانوا الـممارسات الظلامية لبعض الطرق الدينية وتلك الـمتصلة بـمن كانوا يعتبرون أولياء صالـحين، لورعهم أو نسبهم. كما نددوا بسيطرة إدارة الإحتلال على الشؤون الدينية والإسلامية. وقد التقى الشيخ محمد عبده، خلال زيارته سنة 1905 إلى الـجزائر العاصمة وقسنطينة، بالعديد من هؤلاء العلـماء الـمعلـمين.


وقد تطورت الـحركة الإصلاحية في الـجزائر ما بين الـحربين العالـميتين بفـضل ما بذله ابن باديس ومجمـوعة مـن أتبـاعه الأوفياء، من قدامى تلاميذه ومن رفاق له تلقوا، في معظمهم، تكوينهم بتونس أو في الشرق الأوسط. وقد استرشدت هذه الـحركة بفكر ونشاط محمد عبده ورشيد رضا، لكنها اتسمت، كذلك، بـميسم أفكار الوهابيين الـمتزمتة، بل الـمتشددة في أحيان كثيرة، حيث أخذت عنهم عديد الأفكار والـممارسات.

وكان هدف ابن باديس، العقل الـمدبر والقائد الـمنشط لهذه الكوكبة، الذي اجتـمعت فيه صفات النزاهة والأمانة الفكرية اللامتناهية والذي هام حبا بالـجزائر ولغتها ودينها، هو تطهير الإسلام الـجزائر من كافة الـممارسات التي لا تتفق مع القرآن والسنة من حيث هما الـمصدران الوحيدان للعقيدة الإسلامية. هؤلاء الرجال الـمتفانين والـمتطوعين كانوا يرومون جميعهم، عن طريق التربية والكتاب والصحافة، بعث سنة السلف الصالـح في عهود الإسلام الزاهـرة الأولى، مع تكييفها مع ما تقتضيه آفاق التفتـح على حداثة معتدلة. كان على الـمسلـمين، في نظرهم، أن يجعلوا السلف الصالـح مثلهم الأعلى فأطلقوا على أنفسهم، اسم السلفية، مثلـما كان الـحال في الشرق الأوسط. كما عرفوا باسم الإصلاحية.

حال عودته إلى البلاد إذن، ومن 1913 إلى 1925، خصص عبد الـحميد بن باديس جهوده وما أوتي، كمربٍ، من ملكات ومواهب، للتعليم، بدءا من العلوم التربوية كالأدب والتاريخ والـجغرافيا إلى العلوم الـمدنية والدينية. وكان يوجه نشاطه التربوي نحو الشباب، ذكورا وإناثا، والكبار، على حد سواء :

ففي سنة 1917، افتتـح درسا عموميا بـمسجد سيدي قموش بقسنطينة.

كان ينظم، بـمقر رابطة الإغاثة الإسلامية بقسنطينة، وبـمساعدة تلامذته، دروسا مسائية للكبار. وكان برنامج الدراسة يتضمن تعليم اللغتين العربية والفرنسية.

سنة 1918، أبان ابن باديس عن قدرته التنظيـمية الفائقة بإرسال الدفعة الأولى من الطلبة الـجزائريين إلى جامعة الزيتونة بتونس، وكان الـمأمول أن يصبحوا إطارات للتعليم الـحر، فاتـحين الـمجال لبعثات دراسية مبرمجة دوريا.


- شجع ونظم و أشرف على بروز العديد من الفرق الـموسيقية والـمسرحية والأندية الرياضية عبر التراب الوطني.

- كان من بين أوائل القادة الذين أدركوا مدى الـمساهمة التي يـمكن للـحركة الكشفية تقديـمها في تأطير الشباب وهيكلته ضمن منظمات جماهيرية.

- ومن جهة أخرى، ظهرت شيئا فشيئا إلى الوجود، بإيعاز منه وتـحت إشرافه، مراكز ثقافية كان أشهرها نادي الترقي بالـجزائر العاصمة الذي كان يشرف على إدارته الطيب العقبي، أحد رفاق الأستاذ الأوفياء.


لقد اتـخذ نشاط الـمجموعة من أجل إحياء الـمسلـمين الـجزائريين أخلاقيا، وبعث إسلام أصيل في نظرها، وتأكيد الشخصية العربية الإسلامية للشعب الـجزائري أشكال عدة. كما تـخندقت، للدفاع عن مثلها، في خندق الصحافة.


هكذا قام عبد الـحميد بن باديس، ابتداء من سنة 1925، بنشر جريدة الـمنتقد وفي أعمدتها باشر، هو و رفاقه، نشر الأفكار الإصلاحية. ومنعت الـجريدة من الصدور ابتداء من عددها رقم 18 لأنها كانت، في رأي الإدارة الاستعمارية، تـحريضية. لكن ابن باديس بقي على إصراره وأصدر بعدها عدة منشورات دورية، تبقى أشهرها الشهاب، التي صدرت من 1925 إلى1939، حيث قرر الشيخ إيقافها تـخوفا، حسب ما يراه بعض الـمؤرخين لسيرته الذاتية، من أن يضطر إلى اتـخاذ موقف لصالـح هذا أو ذاك من الطرفين الـمتصارعين في أوروبا.

ثاني وسيــلة استعملـها ابن بــاديس ورفــاقه كانــت إنشــاء الـمدارس لتعليم اللغة العربية ومبادئ إسلام مجدد.

وإذا كانت جريدة "الشهاب" تعلن عن إنشاء 70 مدرسة، إلى غاية سنتي 1934 - 1935، مكونة من قسم أو قسمين وموزعة على مختلف جهات الوطن، يدرس فيها 3000 تلـميذ، فإن جمعية العلـماء، التي تـم إنشاؤها سنة 1931، قد نشرت، سنة 1950، قائمة من 124 مدرسة، بها سلك تربوي يضم 274 معلـما. وأعلنت نفس الـجمعية، سنة 1954، عن عدد 40000 تلـميذ يرتادون مؤسساتها الـمدرسية. وكانت قد أنشأت، سنة 1947، بقسنطينة، معهد ابن باديس الثانوي الذي كان يتولى تكوين الـمعلـمين والطلبة الـمدعوين إلى مواصلة تعليمهم في فاس وتونس والشرق الأوسط.

وقصد جمع كافة الإرادات الـحسنة التي رمت بثقلها في الكفاح من أجل تـجديد الإسلام، انضم ابن باديس ورفاقه، سنة 1931، لشيوخ أهم الطرق الدينية و أنشأوا جمعية العلـماء الـمسلـمين الـجزائريين. تـم انتـخاب عبد الـحميد بن باديس رئيسا لـجمعية العلـماء الـمسلـمين الـجزائريين خلال اجتـماع للـجمعية العامة التأسيسية، بنادي الترقي، بالـجزائر العاصمة، سنة 1931، ضم رفاق وتلامذة الشيخ وأتباعه ومندوبين من داخل البلاد. وكان مجلس الإدارة الأول للـجمعية يضم: الطيب العقبي، مبارك الـميلي، البشير الإبراهيـمي والعربي التبسي.



وهكذا، فقد استـحوذ الإصلاحيون على أهم الـمناصب في الـجمعية وهمشوا، بسرعة، مــمـثلي الطرق. بعد سنة واحدة، تـمت القطيعة مع شيوخ الطرق الذين شكلوا، بدورهم، جمعية علـماء الـجزائر السنيين. وقد أدى الصراع الـمفتوح والقطيعة بين الـمجموعتين الـمتعارضتين، العلـماء الإصلاحيين من جهة، وشيوخ الطرق والزوايا من جهة أخرى، إلى زرع البلبلة في أوساط الشعب، خاصة منه الفلاحين وسكان الـمناطق الداخلية الـمتـميزين ببساطتهم الطبيعية في أداء الشعائر الدينية والذين كانوا لا يزالون جد متـمسكين بزواياهم، خاصة و أن هذه الزوايا كانت لها سلطة روحية معتبرة ونفوذا عميقا فيـما يتصل بالـمسائل الدنيوية : التعليم، التـحكيـم، الضيافة، الأعمال الـخيرية.....

ينبغي التأكيد على أن الإصلاحيين قد أبانوا، مبكرا، عن وطنية معتدلة تقترب من وطنية أتباع حزب بيان الشعب الـجزائري لفرحات عباس، على الأقل فيما يتعلق بإشكالية انعتاق الشعب الـجزائري وأنهم قد تطلعوا باستمرار إلى تغيير للسياسة الاستعمارية الفرنسية. كان شعارهم هو الثلاثية : "الإسلام ديننا، العربية لغتنا والـجزائر وطننا".

كان نهج الإصلاح الإسلامي، إصلاح العلـماء الـمجتـمعين حول الـمعلـم القائد، ابن باديس، يقوم أساسا على العودة إلى الـمرجعين الأساسيين للإسلام : القرآن والسنة. فكانوا يدعون إلى إحياء الإسلام، وأعمالهم التي كانت تتـخذ مرجعا دائما لها إسلام السلف الصالـح الـمطهر من البدع الـمذمومة، كانت هجوما مركزا على كافة الأوساط التقليدية، الـمتهمة بنشر صوفية ظلامية، راجعة القهقرة، متناقضة وقيـم الإسلام الأصيلة. وكانوا ينددون، بوجه أخص، بالتبجيل الذي كان يحظى به الأولياء الصالـحون ويتهمون شــيوخ وأتبــاع الزوايا والطرق بالشعوذة وكتابة التـمائم وحتى بالشرك. وكانوا يقدمونهم على أنهم مستغلون للشعب ومستغلون، دون وازع ولا رادع، لسذاجة سكان الريف.



وإذا كان ابن باديس نفسه، الذي يقدم على أنه متصوف، لـم يعتـمد دائما القسوة تـجاه الطرق الدينية بحكم تـحليه بفضائل الاستماع والتسامح التي تليق بواحد من أتباع ابن عربي وجلال الدين الرومي، فإن أعضاء آخرين في الـجمعية أظهروا، عكس ذلك، تشددا عقائديا أدى إلى انقسام بعض مدن البلاد إلى معسكرين متعارضين تـحدث بينهما مواجهات حول علوم الدين والأخلاق والـممارسة اليومية للشعائر الدينية. وقد قادوا، مرارا، حملات قاسية، بل عمدوا في بعض الأحيان إلى الشتـم والتـجريح والتشهير والسخرية ضد أتباع الـممارسات الدينية الشعبية.

ولـم تسلـم من هذه الـحملة بعض الزوايا التي كان على رأسها رجال خيّرون، حقيقـون بالإشـادة والتنــويه. وقام بعض شيوخ الزوايا، توخيا للـحفاظ على سلطتهم وما كانوا يتـمتعون به من مزايا، بالتقرب من الإدارة الاستعمارية التي عرفت كيف تستعيدهم وتستعملهم، بطريقة ماكيافلية، ضد العلـــماء الإصلاحــيين والأحزاب الداعية إلى الاستقلال، على حد سواء.

وشيئا فشيئا، وحتى يتـجنب الإجراءات العقابية للـحكم الاستعماري التي كان يجسدها الـمنع الـمتكرر لصدور الـجرائد ومنع تعليم اللغة العربية، فإن ابن باديس قد امتنع تكتيكيا، في برامج نشاطه وفي جهوده الرامية إلى تـحقيق انعتاق الشعب الـجزائري، امتنع عن التطرق إلى الآفاق والأهداف السياسية. ولـم ينفك، هو ورفاقه، ينادون بالانتماء العربي الإسلامي للشعب الـجزائري. وجندوا نفسهم لـخدمة الوطن عن طريق التعليم ونشر الثقافة العربية الإسلامية. وموقف التـحصن الثقافي الـماهر هذا الذي تبناه ابن باديس ورفاقه قد وقف سدا في وجه ممارسات الـمحتل وتصرفات الآباء البيض الرامية إلى استلاب الشعب وإحداث القطيعة بينه و بين هويته ورصيده الـحضاري. و سينجح الـمسعى الشجاع للـمصلـحين الدينيين في كبح ما كان يتعرض له الشعب الـجزائري من طمس لشخصيته و تفريق لصفوفه. وقد كان النجاح، بـما لا يدع مجالا للتشكيك، حليف هذا الكفاح الـمتستر ضد العرقية و الـجهوية، ضد الأدواء والآفــات التي اختلقــتها وحفـزتها وأذكتــها العقول الـمدبرة للاستعمار. وهكذا، شاركت الـحركة الإصلاحية، التي أطلقها ونشطها ابن باديس، دون أن تعلن أبدا موقفها صراحة من استقلال الـجزائر، شاركت في تـجذير الوطنية التـحررية وفي توسيع رقعة مقاومة الـممارسات الاستعمارية الفرنسية الرامية إلى تـمديد الاحتلال الإمبريالي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.



وكان الهدف الأسمى لقائد الإصلاح الديني هو الـمحافظة على شخصية الـجزائر، موحدة ومتـجانسة وجزءا لا يتـجزأ، في كنف خصوصياتها العرقية، الدينية والثقافية.


إن انعدام الانتماء السياسي لابن باديس، الواضح والـجلي على الأقل في بدايات نشاطه، لـم يـمنعه من الاضطلاع بدور الصدارة في تنظيم ونشاط الـمؤتـمر الإسلامي الـجزائري الذي انعقد في يونيو 1936 بالـجزائر العاصمة وضم التيارات السياسية الرئيسية في البلاد، باستثناء دعاة الاستقلال، وطالب الـمؤتـمر بـمنح الـجنسية الفرنسية، مع الاحتفاظ بقانون الأحوال الشخصية، لنخبة من 20000 جزائري، أي لفئة اجتـماعية مكونة من الـحائزين على الشهادات ومن الـموظفين الـمتعلـمين الذين كان بإمكانهم، بالتالي، الـمشاركة في مختلف الانتخابات، مع الـمنتـخبين الأوروبيين أو الأقدام السوداء. ورغم اعتدال الـمطالب الهادفة إلى تـحسين الوضع الـمزري للشعب الـجزائري، فإن الـمعمرين والإدارة الاستعمارية قد أجهضوا، بكل ازدراء، هذا الـمشروع.

عند وفاته، سنة 1940، خلف ابن باديس العديد من التلاميذ والأتباع والرفاق الذين حاولوا مواصلة عمله. وكان أشدهم وفاء واستـماتة في سبيل استقلال الوطن هو، بلا منازع، الشيخ العربي التبسي. وقد اختطفته الشرطة الفرنسية خلال حرب التـحرير الوطنية ولـم يتـم أبدا العثور على جثته.

وخلافا لبعض أعضاء جمعية العلـماء الـمسلـمين الـجزائريين، فإن ابن باديس لـم يلـجأ أبدا إلى العنف الكلامي مع الـمناوئين له، حتى شيوخ الزوايا منهم. لقد كان أكثر طمأنينة وتسامحا وتفتـحا من العديد من رفاقه وكان يتـحلى بالتواضع ونكران الذات والزهد طوال حياته كمفكر ملتزم بالـجبهات التي فتـحها. كان يريد أن يضم الأوساط الـمعادية والـمشككين واللامبالين إلى مشروعه العظيـم الـمتـمثل في مجتـمع أخضعت أسسه الدينية والثقافية للإصلاح. واتـخذ نفس الـموقف الـمتسامح والـحليـم مع الأعراق والديانات الأخرى في البلاد، فلـم يتـخل أبدا عن إنسانية عميقة كان ينهلها أساسا من معتقداته الدينية و من التعاليـم الثمينة التي زودته بها محصلته الثقافية التي جمعها و هو بعد شاب يافع، في بلده أولا، ثم خلال رحلاته التعليمية في الوطن العربي.

وتـخليدا لذكرى إمام القرن، الشيخ عبد الـحميد بن باديس، وتكريـما لـمآثره و هو الـمربي العظيـم و أحد أبرز رجالاتنا، قررت السلطات العمومية أن يكون يوم 16 أبريل يوما للعلـم.

1 - آثاره « باللغة العربية ».

- مبادئ الأصول : نص قدمه و حققه عمار طالبي - الشركة الوطنية للنشر و التوزيع - الـجزائر، 1980 - 48 صفحة.

- العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية - قدمه وعلق عليه محمد حسن فضلاء، دار البعث، قسنطينة، 1985 - 120 صفحة.

- آثار عبد الـحميد بن باديس - وزارة الشؤون الدينية - الـجزائر، 1985 - 4 أجزاء.

- مجالس التذكير، وزارة الشؤون الدينية - الـجزائر، 1991.
2 - الأعمال النقدية لـمؤلفاته « باللغة الفرنسية ».

- علي مراد : ابن باديس، مفسر القرآن الكريـم، جوتنر - باريس 269 صفحة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الـجزائر، 1971، 269 صفحة.

- علي مراد : « الإصلاح الإسلامي في الـجزائر من 1925 إلى 1940، » باريس، موتون - 1967 - 474 صفحة

الأمير عبد القادر


بسم الله الرحمن الرحيم

الأمير عبد القادر
مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة


يعتبر الأمير عبد القادر من كبار رجال الدولة الجزائريين في التاريخ المعاصر ، فهو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ورائد مقاومتها ضد الاستعمار الفرنسي بين 1832 و 1847. كما يعد أيضا من كبار رجال التصوف والشعر وعلماء الدين . وفوق كل ذلك كان داعية سلام وتآخي بين مختلف الأجناس والديانات وهو ما فتح له باب صداقات وإعجاب كبار السياسيين في العالم.
هو عبد القادر بن محي الدين بن مصطفى أشتهر باسم الأمير عبد القادر الجزائري .ولد يوم الجمعة 23 رجب 1222هـ/1807م بقرية القيطنة الواقعة على وادي الحمام غربي مدينة معسكر، وترعرع في كنف والديه حيث حظي بالعناية والرعاية .
-------------------------------------------------------
2- المراحل
-------------------------------------------------------
مرحلة النشأة والتكوين :1807-1832:،حيث تمثل السنة الأولى ميلاده بينما ترمز الثانية الى توليه إمارة الجهاد. قضى هذه المرحلة في طلب العلم سواء في مسقط رأسه بالقيطنة أين حفظ القرآن الكريم أو في آرزيو ووهران حيث تتلمذ على عدد من شيوخ المنطقة وأخذ عنهم مبادئ العلوم الشرعية واللغوية و التاريخ والشعر،فصقلت ملكاته الأدبية والفقهية والشعرية في سن مبكرة من حيـاتـه.
وفي عام 1823 زوجه والده من لالة خيرة وهي ابنة عم الأمير عبد القـــادر، سافر عبد القادر مع أبيه إلى البقاع المقدسة عبر تونس ،ثم انتقل بحرا إلى الاسكندرية و منــها إلى القاهرة حيث زار المعالم التاريخية وتعرف إلى بعض علمائها وشيوخها وأعجب بالإصلاحات والمنجزات التي تحققت في عهد محمد علي باشا والي مصر. ثم أدى فريضة الحج، ومنها انتقل إلى بلاد الشام لتلقي العلم على يد شيوخ جامع الأمويين. ومن دمشق سافر إلى بغداد أين تعرف على معالمها التاريخية واحتك بعلمائها ، ووقف على ضريح الولي الصالح عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية، ليعود مرة ثانية إلى البقاع المقدسة عبر دمشق ليحج. وبعدها رجع مع والده إلى الجزائر عبر القاهرة ثم إلى برقة ومنها إلى درنة وبنغازي فطرابلس ثم القيروان والكاف إلى أن وصلا إلى القيطنة بسهل غريس في الغرب الجزائري .
المرحلة الثانية :1831 -1847
وهي المرحلة التي ميزت حياة الأمير عن بقية المراحل الأخرى لما عرفتــه من أحداث جسام وإنجازات وظف فيها قدراته العلمية وحنكته السياسية والعسكرية فلم تشغله المقاومة- رغم الظرف العصيب -عن وضع ركائز و معالم الدولة الحديثة لما رآه من تكامل بينهما .
فبعد سقوط وهران عام 1831 ،عمت الفوضى و اضطربت الأحوال مما دفع بشيوخ وعلماء ناحية وهران إلى البحث عن شخصية يولونها أمرهم، فوقع الاختيار على الشيخ محي الدين والد عبد القادر ،لما كان يتسم به من ورع وشجاعة ،فهو الذي قاد المقاومة الأولى ضد الفرنسيين سنة 1831- كما أبدى ابنه عبد القادر شجاعة وحنكة قتالية عند أسوار مدينة وهران منذ أول اشتباك له مع المحتلين - اعتذر الشيخ محي الدين لكبر سنه و بعد الحاح من العلماء و شيوخ المنطقة رشح ابنه عبد القادر قائلا: …ولدي عبد القادر شاب تقي ،فطن صالح لفصل الخصوم و مداومة الركوب مع كونه نشأ في عبادة ربه ،ولا تعتقدوا أني فديت به نفسي ،لأنه عضو مني وما أكرهه لنفسي أكرهه له …غير أني ارتكبت أخف الضررين حين تيقنت الحق فيما قلتموه ،مع تيقني أن قيامه به أشد من قيامي و أصلح …فسخوت لكم به…".رحب الجميع بهذا العرض ،وفي 27 نوفمبر 1832 اجتمع زعماء القبائل والعلماء في سهل غريس قرب معسكر وعقدوا لعبد القادر البيعة الأولى تحت شجرة الدردارة وأطلق عليه لقب ناصر الدين، ثم تلتـها البيعة العامة في 4 فبراير 1833.
في هذه الظروف تحمل الأمير مسؤولية الجهاد و الدفاع عن الرعيــة و ديار الإسلام وهو في عنفوان شبابه. وما يميز هذه المرحلة ،انتصاراته العسكرية و السياسية- التي جعلت العدو الفرنسي يتـــردد في انتهاج سياسة توسعية أمام استماتة المقاومة في الغرب و الوسط ، والشرق . أدرك الأمير عبد القادر منذ البداية أن المواجهة لن تتم إلا بإحداث جيش نظامي مواظب تحت نفقة الدولة .لهذا أصدر بلاغا إلى المواطنين باسمه يطلب فيه بضرورة تجنيد الأجناد وتنظيم العساكر في البلاد كافة.فاستجابت له قبائل المنطقة الغربية و الجهة الوسطى، و التف الجميع حوله بالطاعة كون منهم جيشا نظاميا سرعان ما تكيف مع الظروف السائدة و استطاع أن يحرز عدة انتصارات عسكرية أهمها معركة المقطع التي أطاحت بالجنرال تريزيل و الحاكم العام ديرليون من منصبيهما.
أما سياسيا فقد افتك من العدو الاعتراف به ،والتعامل معه من موقع سيادة يستشف ذلك من معاهدتي ديميشال 26 فبراير 1834، والتافنة في 30 ماي 1837.إلا أن تغيرت موازين القوى، داخليا وإقليميا أثر سلبا على مجريات مقاومة الأمير فلم يعد ينازل الفرنسيين فحسب بل انشغل أيضا بأولئك الذين قصرت أنظارهم، فتوالت النكسات خاصة بعد أن انتهج الفرنسيون أسلوب الأرض المحروقة، كما هي مفهومة من عبارة الحاكم العام الماريشال بيجو: "لن تحرثوا الأرض، وإذا حرثتموها فلن تزرعوها ،وإذا زرعتموها فلن تحصدوها..."
كان لهذه السياسة أثرها الواضح في تراجع قوة الأمير، لاسيما بعد أن فقد قواعده الخلفية في المغرب الأقصى، بعد أن ضيق عليه مولاي عبد الرحمن سلطان المغرب الخناق متحججا بالتزامه بنصوص معاهدة "لالا مغنية" وأمر جنده بمطاردة الأمير وأتباعه بما فيه القبائل التي فرت إلى المغرب من بطش جيش الإحتلال.
مرحلة المعاناة والعمل الإنساني : 1848 - 1883
تبدأ هذه المرحلة من استسلام الأمير عبد القادر إلى غاية وفاته. ففي 23 ديسمبر 1847 سلّم نفسه بعد قبول القائد الفرنسي لامورسير بشروطه،ونقله إلى مدينة طولون، وكان الأمير يأمل أن يذهب إلى الإسكندرية أو عكا كما هو متفق عليه مع القادة الفرنسين، ولكن أمله خاب ولم يف الفرنسيون بوعدهم ككل مرة، عندها تمنى الأمير الموت في ساحة الوغى على أن يحدث له ذلك وقد عبّر عن أسفه هذا بهذه الكلمات "لو كنا نعلم أن الحال يؤدي إلى ما آل إليه، لم نترك القتال حتى ينقضي الأجل". وبعدها نقل الأمير وعائلته إلى الإقامة في "لازاريت" ومنها إلى حصن "لامالغ" بتاريخ 10 جانفي 1848 ولما اكتمل عدد المعتقلين من أفراد عائلته وأعوانه نقل الأمير إلى مدينة "بو" PAU في نهاية شهر أفريل من نفس العام، ليستقر بها إلى حين نقل إلى آمبواز . في 16 أكتوبر 1852 ، وهي السنة التي أطلق فيها نابليون الثالث صراحه.
استقر الأمير في استانبول ، وخلال إقامته زار ضريح أبي أيوب الأنصاري و وقف في جامع آيا صوفيا، الا أنه فضل الإقامة في مدينة بورصة لتاريخها العريق ومناظرها الجميلة ومعالمها الأثرية، لكنه لم يبق فيها طويلا نتيجة الهزات الأرضية التي كانت تضرب المنطقة من حين لآخر ،فانتقل إلى دمشق عام 1855 بتفويض من السلطان العثماني وفيها تفرغ للقراءة والتصوف والفقه والحديث والتفسير. وأهم المواقف الإنسانية التي سجلت للأمير، تصديه للفتنة الطائفية التي وقعت بين المسلمين والمسحيين في الشام عام 1860. و تحول الأمير إلى شخصية عالمية تحظى بالتقدير و الاحترام في كل مكان يذهب إليه حيث دعي لحضور احتفال تدشين قناة السويس عام 1869. توفي يوم 26 ماي 1883 في دمر ضواحي دمشق عن عمر يناهز 76 سنة، دفن بجوار ضريح الشيخ محي الدين بن عربي الأندلسي، نقل جثمانه إلى الجزائر في عام 1966.
من مؤلفاته :
1/ذكرى العاقل وتنبيه الغافل.
2/المقراض الحاد (لقطع اللسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد.
3/مذكرات الأمير عبد القادر.
4/المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد

الأربعاء، 15 يوليو 2009

أبو مدين التلمساني

بسم الله الرحمن الرحيم
أبومدين التلمساني 

هو أبو مدين شعيب بن الحسين الأنصاري الأندلسي، ولد بحوز إشبيلية ،وتعلم بفاس، ثم حج، وعند أوبته استوطن بجاية ، توفي قرب تلمسان سنة 594 هجرية ، ودفن بقرية العباد في تلمسان، وضريحه بها مشهور مزار .

ترجم أبومدين لنفسه ، وتناقل ترجمته عدد من المؤلفين (1) ، ومما جاء فيها : أنه لما توفي والده ، كلفه أخوته - وكان أصغرهم سنا - برعي مواشيهم التي ورثوها ، عن والدهم، فكان - أثناء ذلك - إذا رأى مصلياً أو قارئاً دنا منه ، وكان يجد في نفسه غماً عظيماً لكونه لا يفعل مثله ، فيحدث إخوته بما يجد ، فينهونه ويأمرونه بالسهر على رعاية مواشيهم .

اشتد غمه على ما هو فيه ، وقويت عزيمته على طلب مسالك العلم. ترك الماشية ، وفر طالباً لما تاقت إليه نفسه ، فأدركه أحد إخوته ورده ثم هدده بالحربة ، لكنه ما لبث أن فر بالليل ، فأدركه بعض إخوته وسل عليه سيفه وضربه به ، فتلقى الفتى الضربة بعصاه ، ثم سار حتى وصل البحر، حيث وجد خيمة بها ناس ، و خرج إليه منها شيخ ، سأله عن أمره ، فأخبره بمسألته، فأشار عليه : أن انصرف إلى الحاضرة حتى تتعلم العلم ، فإن الله تعالى لا يعبد إلا بالعلم .

رحل أبو مدين إلى العدوة، و نزل بطنجة، و منها سار إلى سبتة، حيث اشتغل مع الصيادين طلباً للعيش، و لكن نفسه حدثته: أن ليس ذلك هو القصد الذي سافر من أجله، فانصرف إلى مراكش، و قصد بها جماعة الأندلس، فكتبوا اسمه في زمام الأجناد، فقال لبعضهم: (( إنما جئت للقراءة ))، فقيل له:
(( عليك بفاس ))، فسار إليها، و أقام بها، و لازم جامعها، حيث تعلم فرائض الوضوء والصلاة.

وكان يتردد بفاس على مجالس العلماء، لكنه لم يكن يفهم عنهم شيئا، إلى أن جلس مجلساً كلما تكلم صاحبه بكلام ثبت في قلبه و حفظه، فسأل عن الشيخ، فقيل له إنه أبو الحسن بن حرزهم))، فلما فرغ الشيخ من درسه، دنا منه أبو مدين، و قال له: ((حضرت مجالس كثيرة، فلم أثبت على ما يقال، و أنت كلما سمعت منك حفظته، فقال له: هم يتكلمون بأطراف ألسنتهم، فلا يجاوز كلامهم الآذان، و أنا قصدت الله بكلامي فيخرج من القلب )) .

كان - إذن - الزاهد الصّوفي أبو الحسن عليّ بن حرزهم ( - 559 هـ) أول شيخ تعلق به قلب أبي مدين، فلازمه و تردد على مجلسه، و كان مما قرأه و أخذه عنه: "الرعاية لحقوق الله" للحارث المحاسبي، و "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي، ثم تردد على مجلس فقيه فاس و عالمها أبي الحسن بن غالب القرشي ( - 568 هـ ) و أخذ عنه: "كتاب السّنن في الحديث" للأمام أبي عيسى الترمذي، بينما أخذ التّصوف، بوصفه علماً نظرياً، عن الشيخ أبي عبد الله الدقاق الذي كان يتردد من فاس إلى سجلماسة، و الذي كان يقول عن تلميذه: ((أنا وليّ أخذ عنه الشيخ أبو مدين علم التصوف)) .

أما الّتصوف بوصفه سلوكاً عملياً، فقد مارسه أبو مدين على يد الشيخ أبي يعزى(- 572 هـ)، الذي كان يعد في هذا الجانب مصباح عدوة القرويين من فاس، و الذي حكيت عنه أعاجيب الأخبار في الكرم و الكرامات، لخصها أبو مدين في قوله: (( طالعت أخبار الصالحين من زمان أويس القرني إلى زماننا، فما رأيت أعجب من أخبار أبي يعزى، و طالعت في كتب التصوف فما رأيت كالإحياء للغزالي)) .

و كان أبو يعزى يمتحن مريديه امتحاناً عسيراً في بداية السلوك، ليختبر صدق الإرادة من زيفها في المريد، و قد سجل أبو مدين جانباً من الابتلاء و الاختبار الذي تعرض لـه مع شيخه، فقال: (( سمعت الناس يتحدثون بكرامات أبي يعزى، فذهبت إليه في جماعة توجهت لزيارته، فلمّا وصلنا جبل " إيروجان "، و دخلنا على أبي يعزى، أقبل على القوم دوني، فلمّا أُحضِر الطّعام منعني من الأكل، فقعدت في ركن الدار، فكلما أحضر الطعام و قمت إليه انتهرني، فأقمت على تلك الحال ثلاثة أيام و قد أجهدني الجوع، و نالني الذّل، فلما انقضت ثلاثة أيام، قام أبو يعزى من مكانه، فأتيت إلى ذلك المكان، و مرغت و جهي فيه، فلما رفعت رأسي نظرت فلم أر شيئا، و صرت أعمى، فبقيت أبكي طول ليلتي)). ثم قال : ((فلما أصبحت استدعاني وقال لي: اقرب يا أندلسيّ! فدنوت منه، فمسح بيده على عيني فأبصرت ، ثم مسح بيده على صدري وقال للحاضرين : هذا يكون لـه شأن عظيم ، أو قال كلاماً هذا معناه ، فأذن لي في الانصرا ف)).

وقد ظل أبومدين ، بعد ذلك ، يتردد إلى زيارة أبي يعزى ، وكان أبويعزى يقربه منه ، ويقول لـه أأشك أرجاز الأندلس )) ، ومعناه : تعال يارجل الرجال الأندلسي . وبذلك فقد جمع أبومدين بين التصوف النظري، والتصوف العملي جمع علم وعبادة .

رحل أبومدين ، بعد ذلك ، إلى المشرق قصد أداء فريضة الحج ، وقد روي أنه تعرف في عرفة بالشيخ عبد القادر الجيلاني الحسني ( - 561هـ ) رأس الطريقة القادرية، وأنه أخذ عنه في الحرم الشريف كثيراً من الأحاديث ، وألبسه خرقة الصوفية ، وأودعه كثيراً من أسراره ، وأن أبامدين كان يفتخر بصحبته ، ويعده أفضل مشائخه الأكابر ، فيكون أبومدين-بذلك- أول من نقل الطريقة القادرية إلى بلاد المغرب .

ولما عاد أبومدين من المشرق ، تردد في بلاد " إفريقية " أي تونس ، ثم استقر به المقام في بجاية، وهي المدينة التي كان يفضلها على كثير من المدن ، والتي كان يقول عنها : (( إنها معينة على طلب الحلال)) وكانت بجاية يومئد قد بلغت أوج إشعاعها الثقافي و الحضاري على عهد الحماديين : ( 408 -547 هـ ) ، ثم علىعهد الموحدين بعدهم وقد عاصر أبومدين العهدين ، وإن كنا لا نعرف بالتدقيق المدة التى قضاها على عهد الحماديين، فإنها بالتقريب لا تقل عن ست عشرة ( 16 ) سنة ، وذلك بدليل قول تلميده: محمد بن عليّ بن حماد الصنهاجي : (( أنه سمع عليه كتاب " المقصد الأسنى " وكان ذلك بداره ببجاية سنة 531 هـ )) ( 2 ) ، غير أن المدة التي قضاها في عهد الموحدين كانت أطول من ذلك، إذ بلغت زهاء سبع وأربعين سنة ( 3 ) .

وإذا كانت بوادر النبوغ العلمي والصوفي قد ظهرت على أبي مدين في فاس ، فإن مناقب الشهرة وألقابها ، التى طبقت الآفاق ، مثل : " شيخ المشائخ " والجامع بين " الحقيقة والشريعة " وصاحب " مقام التوكل " ومخرج " الألف شيخ " و " علم العلماء " و " الحافظ " و " المفتى" وصاحب " الكرامات والخوارق " و " القطب الغوث " ، قد نالها في أغلبها وهو في بجاية التي أحبها وفضلها على غيرها من المدن ، وهي المدينة التي تصدى فيها للتدريس والتربية ، وخرج فيها دفعات من طلاب علمي الظاهر والباطن على طريقة أستاذه أبي يعزى ، ومما كان يدرسه لهم : كتاب " المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" للإمام الغزالي ، الذي ذكر أنه بث فيه بعض "أسرار المكاشفة".

ولقد كان أبومدين متحفظاً أثناء تدريسه " للمقصد الأسني " إذ كان يأمر طلابه (( أن لا يقيدوا عنه شيئاً مما يقوله في هذا الكتاب ))، لأن عيون الدولة الموحدية، المتعصبة لمسائل علم الظاهر كالفقه و علم الكلام، كانت تراقبه و تتوجس منه خيفة من شهرته و كثرة طلابه و أصحابه و عموم أتباعه الذين أصبحوا يشكلون قوة لها خطرها على الدولة القائمة على مذهب مخالف.

و كذلك كان مآله مع السّلطة الموحدية في آخر حياته، فقد تناقل الرواة أن الشيخ ((لما اشتهر أمره ببجاية وشي به بعض علماء الظاهر عند يعقوب المنصور، و قال: إنه يخاف منه على دولتكم، فإن لـه شبهاً بالإمام المهدي، و أتباعه كثيرون في كل بلد، فوقع في قلبه، و أهمه شأنه، فبعث إليه في القدوم عليه ليختبره، و كتب لصاحبه ببجاية بالوصية و الاعتناء به، وأن يحمله خير محمل )) (4) .

فلما أخذ أبو مدين يستعد للسفر إلى مراكش، عاصمة الدولة الموحّدية، للمثول بين يدي يعقوب المنصور، خليفة الدولة الثالث الذي امتدت ولايته من 580 إلى 595 هجرية، شق ذلك على أصحابه، وخافوا أن يصيبه منه مكروه، فطمأنهم الشيخ و كان مما قاله لهم(شعيب شيخ كبير ضعيف لا قوة لـه للمشي، و منيته قدّرت بغير هذا المكان، و لابد من الوصول إلى موضع المنية، فقيض الله لي من يحملني إلى مكان الدفن برفق، و يسوقني إلى مرام المقادير أحسن سوق، و القوم لا أراهم ولا يروني)) (5) ، يقصد السّلطان، فرق حالهم لذلك، و طابت نفوسهم، لاعتقادهم أن ذلك من "كراماته".

فلما وصل الموكب به إلى و لاية تلمسان، مرض الشيخ مرض الموت، و لما وصل إلى وادي يسّر اشتد مرضه، فنزلوا به هناك، حيث وافته المنية، عن نحو خمس و ثمانين سنة، و حمل الجثمان إلى قرية العباد، مدفن الأولياء، و كانت جنازته يوماً مشهوداً، خرج فيها أهل تلمسان عن بكرة أبيهم، تقديراً منهم للولّي الكبير، و منذ ذلك الحين، صارت تلمسان مدينة الوليّ سيدي أبي مدين، يعرف بها وتعرف به ويحتمي بها وتحتمي به .

2 - أثره:

ولقد ملأ أبو مدين - رحمه الله - الدنيا و شغل الناس بما روي عنه من " كرامات " و خوارق العادات (6) وبما أثر عنه من منثور الكلام و منظومه الصوفي، و لكن أغلب آثاره و انشغالات العارفين بها، مازالت مفرقة و مشتتة في المظان القديمة تنتظر من يتتبعها فيجمعها و يحققها تحقيقاً علمياً، و يصنفها في سفر أو أسفار، كيما يسهل على الدارسين الوصول إليها لمدارستها و الانتفاع بها في مجالاتها المختلفة.

فقد كان الشيخ فقيهاً مفتياً، و كان الناس يقصدونه أو يراسلونه من أطراف الأرض للاستفتاء فيفتيهم، و كان للشيخ " مواقف و مخاطبات " صوفية على شاكلة مواقف البسطامي و النِّفَّري ومخاطباتهما الصوفية، وكانت لـه " منامات " رمزية، و ذكر صاحب الكواكب الدرية أن الشيخ قد ترك ((تصانيف منها كتاب أس التوحيد)) كل ذلك، و ربما غيره، من تراث الشيخ مازال في أغلبه في حكم الضياع و النسيان، ينتظر من يجمع شتاته، و يحقق فيما صح منه للشيخ فينسبه لـه، و ينفي عنه مالم يصح مما نسب إليه سهواً أو عمداً، كما سنرى أمثلة من ذلك بعد قليل.

و كان الشيخ إلى جانب ذلك قوّالاً للحكمة ناظماً للشعر، بما في ذلك الموشحات و الأزجال، وقد اعتنى بجمعهما الشيخ العربي بن مصطفى الشوار التلمساني ( +1275 هـ) شيخ الزاوية العلوية بتلمسان، و نشرهما في سفر واحد نجله محمد بن العربي بمطبعة الترقي في دمشق سنة 1938م بعنوان: ديوان الشيخ سيدي شعيب أبي مدين، و هو عمل لم نجد أحداً قد سبقه إليه، أو أعاد غيرُه بعدَه تحقيق الديوان تحقيقاً جديداً حتى الآن، في حدود علمنا.

و على الرّغم مما بذله المرحوم من جهد مشكور، فإن الديوان مازال في حاجة إلى إعادة تحقيق، و ذلك لتوثيق ما به من حِكَم، و الإشارة إلى مظانها المخطوطة المتواجدة في أغلبها بالمكتبة الظاهرية بدمشق(7) ، و لتوثيق ما به من قصائد، و إلحاق أخرى به من الشوارد التي تنقصه، و التي لم تمتد إليها يد الشيخ ففاتته، و ذلك مثل القصيدة اللامية التي هي في الاستغاثة و الأدعية، و عدتها خمسة و عشرون بيتا، أولها (8):

لأَِلْطَافِكَ الحُسْنَى مَدَدْتُ يَدَ الرَجَا

وَ حَالِي كَمَا تَدْرِي، وَأَنْتَ المُؤَمَّلُ

قَصَدتُكَ مَلهُوفًا فُؤَادِي لـِمَا طَرَا


وَ أَنْتَ رَؤُوفُُ مُحسِنُُ مُتَفَضـِّلُ


و آخرها:

وَ أَزْكَى سَــلاَمٍ لاَ يَزَالُ عَبِيرُهُ

يَفُوقُ عَلَى المِسْكِ الذَّكِيِّ وَ يَفْضُلُ

وَآلٌ وَ أَصْحَابُُ، بـُدُورُُ وَسَادَةُُ

تَحَلُّوا فَكُـلُُّ فِي حُـلاَّهُ مُكَمَّـلُ

و مثل القصيدة النونية الخمرية، و التي هي من أشهر قصائد سيدي أبي مدين الصوفية، و التي تعد من بواكير القصائد الخمرية الصوفية، و التي يكون ابن الفارض قد استلهم منها قليلا أو كثيرا لصناعة ميميته الخمرية المشهورة، و عدتها خمسون بيتا، أولها(9) :

أَدِرْهَا لَنَا صِرْفًا وَ دَعْ مَزْجَهَا عَنَّـا

فَنَحْنُ أُنَاسٌ لاَ نَعْرِفُ الْمَزْجَ مُذْ كُنَّا

وَ غَنِّ لَنَا فَالْوَقْتُ قَدْ طَابَ بِاسْمِهَا

لأِنَـا إِلَيْهَا قـَدْ رُحـْنَا بِهَا عَـنَّا

و آخرها:

وَ حَتَى غُصُونُ الْبَانِ مَالَتْ تَرَنُّمًا

وَ غَنـَّتْ عَلَيْهِ كـُلُّ صَادِحَةٍ شَجْنَا

أَهَلْ عَائِدٌ لِيَ وَقْتٌ كَيْ أَرَى بِهَا

خَيَالَ سِوَى زَائِرِ مَـضْجَعِي وهَـْنَا

كما يحتاج الدّيوان، في موشحاته و أزجاله، إلى وقفات متأنية، و ذلك للتحقيق في و جهة النظر التي ذهبت إلى ((أن الششتري كان أول من استخدم الزجل في التصوف، كما كان ابن عربي ( - 638هـ ) أول من استخدم الموشح في مجال التصوف، و أن للرجلين فضل السبق في هذا المضمار، و إلى أن ما ينسب لأبي مدين من هذا الفن هو في غالبه لأبي الحسن الششتري
(610- 6 هـ) (10)، وهي وجهة نظر إذا صحت فإنها لا تنفي سبق أبي مدين إلى نظم الموشح الصوفي فحسب، و لكنها تنفي أيضا أن يكون الرجل قد نظم الموشح، مثلما نظم القصيدة التقليدية، و هي وجهة نظر خطيرة، إذ بموجبها ينبغي شطب ما مقداره ثمانية عشر موشحا منسوبة لأبي مدين و مثبتة كلها في ديوانه، دفعة واحدة و بجرة قلم، و هو الأمر الذي لا نرجحه و لا نذهب معه في غياب التحقيق و التوثيق العلمي.وتلك مشكلة حقاً ، ولكنها لاتحلها وجهات النظر التي لا سند لها، بقدر ما يمكن أن تحسم بالجهود الشاقة التي مافتئت تبذل في تحقيق بعض المظان التي عرضت
لأبي مدين واهتمت بتدوين بعض نظمه، وعلى سبيل المثال فإن الموشح الذي مطلعه:

ياعيني لازمي السّهرطول الليالي

عشقي في محبوبي اشتهر رقوا لحالي

ورد في ديوان أبي مدين، كما ورد في ديوان الششتري و ورد أيضا في
(الجواهر الحسان)(11) منسوباً لأبي مدين، ومع ذلك ليس في مقدورنا الآن أن نقول الكلمة الأخيرة في صحة نسبة هذا الموشح أو الزجل ، ولا في غيره من الموشحات الأخرى والأزجال مما قد ندارسه للشيخ مع القصيدة التقليدية التي لا يحوم شك ولاريب حول نسبتها إلى أبي مدين، و نرجح - مسبّقاً - أن أبا مدين قد نظم الموشح و الزجل إلى جانب القصيدة التقليدية، و أنه قد سبق ابن عربي و الششتري إلى نظمها، و ذلك لأن المدرسة المَدْيَنِيَة في بجاية التي ترددا عليها و أخذا عنها كان لها أثرها عليهما في الأخذ الصوفي و التقليد الفني معا.

ونشير في آخر هذا الجزء إلى أن مجموع نظم الديوان قد بلغ زهاء سبع و أربعين منظومة، منها حوالي ثمانية عشر موشحا، وحوالي تسع وعشرين قصيدة، مابين مقطوعة ومطولة، وقد أضفناإليها في الدراسة القصيدتين المذكورتين سابقاً، اللتين خلا منهما الديوان، وقد ركزنا في درسنا على القصائد أكثر منه على الموشحات، للأسباب التي ذكرنا آنفاً، مع الإشارة، عند الاقتضاء، إلى مظان أخرى غير الديوان .

الاثنين، 13 يوليو 2009

العلامة الشيخ عبد الرحمان الثعالبي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم 
على بركة الله تنطلق مدونة أعلام الجزائر والتي تجمع شتات تراجم أعلام وسيرهم العطرة .وقد ارتأينا أن نزاوج بين القدماء والمعاصرين .
ونبدأ بأحد أعلام الجزائر الفيحاء  وهو :
العلامة الشيخ عبد الرحمان الثعالبي
النسب والعصر: عاش العالم العامل الإمام المجتهد فخر أئمة علماء الجزائر وصلحائها الأتقياء أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي الجعفري في القرن التاسع الهجري ، الخامس عشر الميلادي. يعود نسبه إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- الميلاد ( الزمان والمكان): ولد الشيخ عبد الرحمن الثعالبي سنة 786هـ / 1385م بناحية (وادي يسر) الواقع بالجنوب الشرقي من القطر الجزائري، وعلى بعد 86 كلم من الجزائر العاصمة، وهذا الوادي موطن آبائه وأجداده الثعالبة، أبناء ثعلب بن علي من عرب المعقل الجعافرة.
3 – النشأة والتكوين : نشأ الشيخ عبد الرحمن في بيئة علم ودين وصلاح، استهل تعلمه على يدي علماء منطقته. ثم ارتحل إلى حاضرة العلم والثقافة والفكر والأدب بناحيته يومئذ مدينة( بجاية)، فنزل بها سنة 802هـ/1399م، فلازم مجالس علمائها وأخذ عنهم الكثير من علمهم في مختلف فنون المعرفة، كان من أشهرهم: أبو الحسن علي بن عثمان المانجلاتي، وأبو الربيع سلمان بن الحسن، وأبو العباس أحمد النقاوسي، وأبو القاسم المشدالي، وأبو زيد الوغليسي، وغيرهم.
ثم رغب الشيخ عبد الرحمن في المزيد من التحصيل وطلب العلم، فانتقل تحقيقا لذلك إلى تونس سنة 809هـ/1406م فلقي بها كوكبة من كبار علمائها، فأفاد من مجالسهم، من بينهم: الأبي، والبرزلي تلميذ ابن عرفة.
  ثم ارتحل إلى مصر سنة 819هـ /1414م، فلقي بها البلالي، وأبا عبد الله البساطي، وولي الدين العراقي وغيرهم، فأخذ عنهم الجم من معارفهم.
ثم ارتحل إلى تركيا، ومنها قصد الحجاز فأدى فريضة الحج، واختلف إلى مجالس العلم هناك، ثم قفل راجعا إلى مصر، ومنها إلى تونس، فوافى بها ابن مرزوق الحفيد التلمساني، فلازمه وأخذ عنه الكثير من وافر علمه، وقد أجازه أكثر من مرة.
 ثم عاد بعد هذه الرحلة الطويلة في طلب العلم والمعرفة إلى وطنه الجزائر، فعكف به على نشر العلم وهداية الخلق والانقطاع للعبادة والتدريس والتأليف، فتخرج على يديه كثير من العلماء، من بينهم: 
1- محمد بن يوسف السنوسي 2- الشيخ أحمد زروق 3- محمد المغيلي التلمساني 
4- أحمد بن عبد الله الزواوي 5- محمد بن مرزوق الكفيف، وغيرهم.
  تولى القضاء زمنا قصيرا، ثم تركه لينقطع إلى الزهد والعبادة، كما قام بالخطابة على منبر الجامع الأعظم بالجزائر العاصمة، ويروى أن من بقايا آثاره المتبرك بها إلى يوم الناس بهذا المسجد (مقبض عصى خطيب صلاة الجمعة).
4- آثاره العلمية: عكف الشيخ عبد الرحمن على التدريس والتأليف، وكانت معظم مصنفاته في خدمة علوم الشريعة، وقد ترك في هذا الحقل ما يزيد على تسعين مؤلفا في التفسير والحديث والفقه واللغة والتاريخ والتراجم وغيرها، نذكر من بينها:
1- تفسيره الجواهر الحسان في تفسير القرآن في أربعة أجزاء، طبع أول مرة بالجزائر 1909، ثم طبع طبعة ثانية في السنوات الأخيرة بتحقيق الدكتور عمار طالبي.
2- روضة الأنوار ونزهة الأخيار في الفقه.
3- جامع الهمم في أخبار الأمم. 
4- جامع الأمهات في أحكام العبادات.
5- الأربعين حديثا في الوعظ.
  وكان الشيخ عبد الرحمن مشارك في الصناعتين: يقرض الشعر ويكتب النثر، ومن شعره في الوعظ والزهد قوله: 
  و إن امرؤ أدنى بسبعين حجة  
جديــر بأن يسعى معدا جهازه
و أن لا تهز القلب منه حوادث  
و لــكن يرى للباقيات اهتزازه 
و أن يسمع المصغى إليه بصدره  
أزيزا كصوت القدر يبدي ابتزازه
فماذا بعد هذا العمر ينتظر الذي  
 يعمره في الدهــر إلا اغتراره ؟
وليس بدار الذل يرضى أخو حجى  
 ولكن يرى أن بالعزيـز اعتزازه
قضى الشيخ عبد الرحمن حياته على هذا النحو، عاكفا على الطاعات، راغبا في العبادات متجردا عن الدنيويات.
وقد توفاه الله- رحمة الله عليه - يوم الجمعة 23 رمضان المعظم 875هـ منتصف شهر مارس 1471م . 
ودفن رحمه الله في زاويته بالجزائر العاصمة حيث ضريحه بها إلى اليوم .
وقد رثاه كثير من العلماء من معاصريه، كان من بينهم تلميذه الشيخ أحمد بن عبد الله الزواوي ، ومن ذلك قوله: 
لقد جزعت نفسي بفقد أحبتي  
وحق لها من مثل ذلك تجزع
ألمّ بنا ما لا نطيق دفاعـــه  
وليس لأمر قدر الله مرجع 
5- الخلاصة : ونستخلص مما تقدم أن الإمام عبد الرحمن الثعالبي عاش حياته منقطعا إلى العبادة والزهد ونشر العلم وخدمة أهله . ويؤكد معاصروه من العلماء في هذا الباب أن الروح الدينية كانت تغلب غيرها في خصائص سلوكه ومقومات إسهاماته ، ويقول في هذا الصدد أحد تلاميذه الشيخ أحمد بن زروق : ًوكانت الديانة أغلب عليه من علمه .ً رحم الله الإمام المجاهد المجتهد، الزاهد الورع الولي الصالح الشيخ عبد الرحمان وأسكنه فسيح جنانه مع أوليائه الصالحين ، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله الصادق الأمين ، والحمد لله رب العالمين . 12