نحن مع غزة
أهلا و سهلا بكم في مدونة أعلام الجزائر والتي أردنا من خلالها جمع تراجم وسير علماء الجزائر وفقهائها ومصلحيها ... فطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة مقعدا ونرحب بنقدكم وتقييمكم وتقويمكم . . ::......... ..

الثلاثاء، 29 سبتمبر 2009

الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي


بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي
هو محمد بن أبي القاسم بن ربيح بن محمد بن سائب بن منصور بن عبد الرحيم بن أيوب .

ولد الأستاذ بالبادية في موضع يقال له الحامدية في شهر رمضان من عام 1239هـ / ماي 1824 م . و نشأ في كنف والديه الكريمين عزيزاً مكرماً ، تعلّم في قرية الهامل على يد أحد علـماء الشّـرفة يسمى( سي محمد بن عبد القادر المشهور بـ ( كريرش ) فكان ذكياً و حافظا ممتازاً ، حفظ القرآن في سن مبكرة يقدرها بعضهم بـ 13 سنة .

انتقل بعد ذلك إلى مناطق البيبان حيث زاوية سيدي علي الطيار لمواصلة تعلمه ، ( فأتقن القراءات السّبع و فنّ التجويد على يد أحد لهؤلاء بصماتهمها المسمّى سي الصّادق ، كما تولّى مؤونة أكله و العناية به رجل من الأخيار يسمّى عبد الواحـد .

بعد عامين قضاهما في ر حاب القرآن، عاد إلى الهامل و سرّ به معلّمه الأول ( سي كريرش) ، بقي مـدة في القرية كان خلالها يتردّد على الكُتّاب ، و أحيانا يساعد معلّمه في تعليم القرآن لأبناء قريته ، تارة في جامع عين التّوتة و تارة أخرى في المسجد العتـيق، و كعادة الأشراف بعد صلاة العصر من كل يوم تمتلئ بهم رحاب الجامع يستمعون إلى قراءة القرآن ، و يشارك بعضهم في قراءة الحزب الراتب مع التّلاميذ ( القـناديز).

توجه إلى زاوية السّعيد بن أبي داود ( آقبو ) من مناطق جرجرة ، و فيها لازم العلاّمة الشّيخ سيدي أحمد بن أبي داود مدّة حدّدها بعضهم بـ : خمس سنوات ، و يُقدّرها آخرون بسبع سنوات قضاها في رحاب العلم و المعرفة . وَجَدَ مُجْتَهدًا فأخذ عنه علوم الشريعة ، و برع في المذهب المالكي ، و يقول عنه تلميذه الحفناوي صاحب كتاب تعريف الخلف برجال السّلف : ( كان شديد الذّكاء عجيب الفطرة ، مفرط الإدراك ، بعيد الغور ، غوّاصا على المعاني الدّقيقة ، جبل علم مناظرا محاججاً )

لقد كان مثالا في الجد والغرام بالعلم وأهله ، و كان شيخه أحمد بن أبي داود يحبه كثيراً ويُعجب بذكائه الوقّادِ وحافظته النّادرة ، فتمنّى أن يكون عالماً جليلاً ( وكان التّلميذ معجباً بأستاذه و يَكْبُرُ فيه عِلمَه و دينه ، و يتمنّى أن يكون مثله يدير زاوية كبيرة يُعلِّم فيها ) .

أخذ محمّد بن أبي القاسم على شيخه عـلوم الشّريعة ( فبرع في علم التّفسـير والحديث و الفقه و أصوله ، و عـلم الكلام ، و النّحو والصّرف ، والبلاغة و علم الفلك ، والحساب ، فأتقنَهَا جميعاً ) .

حين تأكّد ابن أبي داود من براعة تلميذه و تحصيله الجيّد و طريقته المثلى في التدريس أمرَه بالتّوجه إلى زاوية ابن أبي التّقي ليدرس بها الفقه فأكمل ثلاثة أجزاء من الشّيخ الخرشي ( صلاة و زكاة ، و بيوعا) فكان مدرّسا ممتازا واعظا للعامة ، وموجِّهاً دينياً بارعاً ، فأُعجب به النّاس و صار حديث المجالس في بلاد القبائل ، و يشهد له كل علماء الزّاوية و مُريدوها و طلَبَتها بالعلم و المعرفة فكان ذلك مدعاةً لشيخه أن يمنحه الإجازة َ( الشهادة ) و خلال وُجوده بزاوية أبي التّقى في حضرة شيخه بجماعة من الأشراف منهم ( السيد محمد بن زيان ، و السيد إبراهيم بن الحاج ، و السيد أبو الأجدل بن عمر ) و كلهم مرابطون من الهامل ، فطلبوا من شيخه سيدي أحمد بن أبي داود أن يأذن له بالتّدريس في الهامل فكان لهم ما أرادوا، فعاد ابن أبي القاسم إلى قريته بأمر من شيخه ، و رغبةً من الأشراف .

في عام 1265هـ /1849 م أو بعدها بقليل، بدأ الأستاذ محمد بن أبي القاسم التَدريس بالهامل ، و يرجّح أن يكون جامع الحجّاج بعين التّوتة هو نقطة البدء في عمليّته التّعليمية ومشروعه الذي عزم على تحقيقه ففرح به أهل القرية ، و زَهَتْ به الهامل و شهِدت عين التّوتة وجامع الحجّاج حركةً لم تعرفها من قبل و تَوَافدَ على مَوْطِنِ الحجّاج و موضع إقامتِهم سكّان القرى و البوادي المجاورَةِ لسماع الوعظِ والإرشاد ، وسارَعوا بأبنائهم لطلب العلم و المعرفة ، فحصل بذلك نفع كثير. ( كان يحضر دروسَه نحو ثمانين تلميذاً في الفقه .. و كانت مئونة الطّلبةِ في بداية الأمر من عنده ، والمُحسنين من أهل القـرية والقرى المجاورة ، ولمّا رأى الشّيخ تكاثُرَ الطلبة عليه و تزاحُمَهم، فكّر في إنشاء زاوية و معهد ) . يذكر مؤلف كتاب ( الزهر ) أن الشيخ شرع في بناء الزاوية و المعهد في عام 1279هـ/ 1862 م وبعد سنة من العمل المتواصل ، انتقل مع أهله وطلبته إليها حيث تمّ الإنجاز في مدّة سنة ، تشير بعض الروايات المسموعة ، وحتى المكتوبة منها إلى أنّ الشّيخ محمد بن أبي القاسم بعد عودته من بلاد القبائل و مباشرته التّدريس بمسجد الحجّاج ، تكاثر عليه الطلاب والزوّار فطارت سُمعته في الآفاق ، فبلغ ذلك الشيخ المختار بن عبد الرحمن بن خليفة صاحب الزاوية المشهورة بأولاد جلال ، فدعاه إليه للتّدريس بزاويته و لما رأى فيه من الخصال الحميدة وشرف النسب و غزارة العلم طلب منه ملازمته في الزاوية ففعل ، و في آخر أيامه عينه نائـباً له ثم سلمه تصريف الأمور ، و عهد إليه بتربية أبنائه و تسليم أمور الزاوية إلى أحدهم من بعده.

بعد و فاة الشّيخ المخـتار، رتّب ابن أبي القاسـم أمور الزّاوية و أسند إدارة المقام إلى ولدهِ مصطفى بن الشيخ المخـتار، و عاد إلى الهامل يستأنف نشاطه العلمي و الديني ، ويضع اللّمسات الأخيرة للـزّاوية .

لقد كان الشّيخ من أكثر أهل الخير تقديراً للعلم والعلماء ، وكان من المُوجِهين الدّينيين والوُعاظ الصّادقين الذين يخلو تصرفهم من كل بدعة أو خرافة ، حقّق في سنوات قليلة لزاوية الهامل صيتا واسعا تجاوزَ ما لغيرها من الفروع الرّحمانيـة وتمكن أن يُدرِّس كلّ الطّرق الصّوفية لعلماء الشّرفة و من أمّ َ المعهد من غيرهم .

إنّ قرية الهامل التي كانت تَضمُ مدرستين قرآنيتين و بعض الكتاتيب الصّغيرة عند فترة الإحتلال الأولى صارت مركز إشعاع علمي و ديني عظيماً و مَعلماً نيّراً بعد تأسيس محمد بن أبن القاسم الزاوية و المعهد بها .

هذا المعلم النيّر أصبح مركزاً هاما في المنطقة ارتاده في الفترة الممتدة من : 1301 هـ/ 1883 م إلى 1303 هـ / 1885 م ( ما بين 200 إلى 300 طالب سنويا ) بدرسهم أساتذة مجازون و مهرة بلغ عددهم خلال نفس الفترة 19 أستاذاً في جميع المعارف و العلوم ، وكان بعض تلاميذ المعهد يتوجّهون إلى العاصمة لإتمام دراستهم العلـيا بمدارسها .

بالإضافة إلى الدّور الثقافي و الديني فإن الزاوية كانت مركز التقاء كبير للأعراش المجاورة و محطّ رحال أولاد نايل لفكّ خصوماتهم و التـآلف بينهم و تزويدهم بالمعـارف الدينية ، كما كانت مأوى للعجزة والمحرومين .

و قد كانت وفاة شيخ الزاوية محمد بن أبي القـاسم عام 1315هـ / 1897 م، بعد حياة حافلة بالاجتهاد و الجد و العمل و نشر الدين و الثقافة و جميع العلوم، و تقديم خدمات جليلة للإسلام ولأهله ووطنه .
---------------------
للإستزادة:


الأحد، 27 سبتمبر 2009

الشيخ الطيب العقبي

بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ : الطيب العقبي

من هو الشيخ الطيب العقبي رحمه الله؟
  هو الطيب بن محمد بن إبراهيم، ينتهي نسبه إلى قبيلة أولاد عبد الرحمن الأوراسية، ولد في 15 جانفي 1890 قرب بلدة"سيدي عقبة"وإليها ينسب. وقضى الشيخ سنواته الأولى من عمره في بلدة سيدي العقبة وبها نشأ وترعرع، في جو محافظ بعيد عن حضارة المستعمر وتقاليده. ولما بلغ سن الخامسة من عمر هاجرت أسرة الشيخ الطيب العقبي كلها إلى الحجاز، وذلك أثناء حملات الهجرة الواسعة التي فرقت الجزائريين في بلدان عربية مختلفة من الحجاز ومصر والشام وغيرها، هجرة كان سببها ظلم المستعمر الغاشم وتعسفه ومن ذلك محاولته فرض التجنيد الإجباري على الجزائريين في صفوف الجيش الفرنسي.
  واستقرت أسرته في المدينة النبوية حيث نشأ الشيخ نشأته العلمية، فحفظ القرآن الكريم على يد أساتذة مصريين، ودرس العلوم الشرعية في الحرم المدني على يد مشايخ ذلك الزمان ومنهم حمدان الونيسي شيخ ابن باديس الذي هاجر إلى الحجاز عام 1911. وكانت المدينة قبل الحرب العالمية الأولى تغص بحلق العلم، وكانت أيضا تتوفر على مكتبات جامعة كثيرة كما حكاه الإبراهيمي، ورغم أن والده كان قد توفي وهو في سن الثالثة عشر، فإنه لم ينقطع عن طلب العلم، وقد كان لأمه أثر واضح في تفريغه للطلب حيث أعفته من مهام القيام بشؤون الأسرة مع أنه كان الابن الأكبر وكلفت بذلك أخاه الأصغر، وكان ذلك من عناية الله تعالى بهذا الرجل العظيم الذين كان يعد لأن يكون من كبار المجددين في هذا الزمان.
  ثم إنه سرعان ما تحول من طالب إلى معلم في الحرم النبوي، وكاتب صحفي متميز حتى عد أحد دعاة النهضة العربية في الحجاز، وقد أكسبته كاتباته شهرة اخترقت الآفاق، وصداقة مع كبار المصلحين في ذلك الزمان وعلى رأسهم شكيب أرسلان ومحب الدين الخطيب. 
  وعند قيام ثورة الشريف حسين نفاه الأتراك عام 1916 إلى "الروم ايلي" فـ"الأناضول" بحجة معارضة العثمانيين، وعند انتهاء الحرب العالمية عاد إلى مكة حيث أكرمه الشريف حسين وأسند إليه رئاسة تحرير جريدة القبلة، وكذا إدارة المطبعة الأميرية في مكة خلفا للشيخ محب الدين الخطيب.
العودة إلى الوطن
  مع تلك المكانة التي أحزها عند الأشراف الهاشميين إلا أنه قرر الرجوع إلى الجزائر عام 1920، وكان سبب رجوعه الظاهر الذي صرح به، هو عدم الاستقرار الذي خيم على الحجاز في تلك الأيام نتيجة الصراع السعودي الهاشمي، إضافة إلى الاعتداء الذي وقع على أملاك عائلته في مسقط رأسه، وهذا الأخير كان ذريعة لابد من تقديمها للإدارة الفرنسية ليحصل على موافقتها بالدخول إلى الجزائر. 
  جاء رحمه الله تعالى إلى الجزائر وانتظم أمر تلك الأملاك فهل عاد إلى الحجاز؟ لا لم يعد ولا تفرغ لإدارة تلك الأملاك التي جاء من أجل استرجاعها، بل قرر الاستقرار في أرض الوطن وانطلق في خطته الإصلاحية التي كان جاء من أجلها، حيث يحكي بعضهم أن شكيب أرسلان هو من أشار عليه بالذهاب إلى الجزائر من أجل بعث الأمة الجزائرية وبث الدعوة الإصلاحية بها، ويحتمل أنه استقر بعدما عاين الوضع الذي آلت على الجزائر حيث وجدها غارقة في أوحال الشرك والبدع، والخرافات والضلالات، ووجد الجزائريين مستمعرين من طرف عدو صليبي غاشم ومستعبدين من طرف الطرقية الذي استغلوا جهل الأمة وأميتها. 
  ما استقر الشيخ وانتظمت أمور الأمور حتى سلك مضمار الدعوة والتعليم وانطلق كالسهم، وقد تنوع نشاطه التعليمي وكان شاملا لجميع الطبقات ، فكان منها مجالس التكوين للطلبة وكان يدرس لهم الجوهر المكنون في البلاغة وقطر الندى في النحو، وكان منها مجالس الوعظ والتذكير للعامة التي كان يلقيها في مساجد المنطقة، وكان موضوع تدريسه التفسير، وقد اختار له الشيخ تفسير المنار للشيخ المجدد محمد رشيد رضا، كما درس أيضا السيرة النبوية والعقيدة الإسلامية، وكان منها المجالس الأدبية في «جنينة البايليك» أين كان يجري الحوار الأدبي يوميا في شتى أنواعه وألوانه ويحضره أدباء ومثقفون أمثال الأمين العمودي ومحمد العيد آل خليفة وغيرهم.
  وكما أيضا كان يغتنم المناسبات التي يجتمع فيها الناس كالولائم لدعوة الناس إلى التوحيد وإلى الرجوع إلى القرآن والسنة، ولم يغفل عن الرحلة إلى المناطق المجاورة حتى ذاع ضيته وانتشرت دعوته في منطة الزيبان كلها ، فأعلن بذلك حربا عوانا على الطرقيين* والخرافيين والجامدين الذين كانوا يتغذون من جهل الأمة.
  وما إن انتشر نشاطه وذاع صيته حتى سارعت السلطة الفرنسية إلى اعتقاله لتخوفها منه، فلبث في السجن قرابة شهرين، ثم أفرج عنه وخلي سبيله بعد وساطة أخواله وبعض وجهاء.
نشاطه الصحفي 
  وكان الشيخ حريصا على الكتابة في الصحف وكان يرى في العمل الصحفي الدور الأكبر في نهضة الأمة، واسمع إلى قوله في المنتقد (عدد5):« إن الجرائد في الأعصر الأخيرة هي مبدأ نهضة الشعوب ، والعامل القوي في رقيها، والحبل المتين في اتصال أفرادها، والسبب الأول في تقدمها، والصحافة هي المدرسة السيارة والواعظ البليغ، وهي الخطيب المصقع والنذير العريان لذوي الكسل والبطالة، وهي سلاح الضعيف ضد القوي، ونصرة من لا ناصر له، وهي تأخذ الحق وتعطيه، وترمي الغرض فلا تخطيه وهي المحامي القدير عن كل قضية حق وعدل».  
  لذلك ما إن جاء إلى الجزائر بدأ الكتابة في بعض الصحف التونسية نظرا للفراغ الذي وجده في الميدان الصحفي، ثم أسس بالاشتراك مع جماعته ببسكرة « جريدة صدى الصحراء » في 1925، ثم أسس جريدة الإصلاح عام 1927، واستمر صدورها في مدد متفرقة إلى سنة 1948.
  ولما أنشأ ابن باديس جريدة المنتقد دعاه للمشاركة لبى ندائه ولم يتأخر ولما تأسست الشهاب بعدها كان العقبي من السباقين إلى تلبية دعوتها فنشر مقالاته الحارة وقصائده المثيرة التي تدور غالبا في فلك الإصلاح العقائدي، تلك المقالات التي كان توُصف بالمقالات النارية، لأنها كانت تهدم صروح ضلالات الطرقية صرحا صرحا وتكشف عن انحرافها عن الصراط المستقيم ومخالفتها جوهر الدين.
نشاطه بالعاصمة
  في الوقت الذي تأسس فيه نادي الترقي في جويلية 1927، كانت شهرة العقبي قد اخترقت الآفاق فاتصل به أهل النادي ليكون مشرفا على النشاط فيه خطيبا ومدرسا ومرشدا، فقبل عرضهم وانتقل رحمه الله إلى العاصمة والتحق بنادي الترقي عام 1929، ولم يكن خافيا عليه أهمية نشر الدعوة والإصلاح في العاصمة وأثر ذلك على القطر كله، وقدرت محاضراته بهذا النادي بخمس محاضرات في الأسبوع، إضافة إلى الحلقات والندوات التي كان يعقدها من حين لآخر مع جماعة النادي والرحلات التي كان ينظمها في بعض الأحيان إلى المدن المجاورة من عمالة الجزائر.
  ولم يكن نشاطه التعليمي مقتصرا على النادي بل كان يلقي دروسا في التفسير في المسجد الجديد بعد صلاة الجمعة وبعد عصر كل أحد، ومن نشاطاته في العاصمة إشرافه على مدرسة الشبيبة الإسلامية، وترأس الجمعية الخيرية الإسلامية، ودعا إلى إنشاء منظمة شباب الموحدين.
محنة الشيخ العقبي 
  وبعد مدة ظهرت نتائج دعوته ونشاطه حيث كثرت المدارس العربية الحرة في مدن عمالة الجزائر ، وصار تمسك الناس بالدين في العاصمة أمرا ظاهرا، فهجر الناس شرب الخمر والميسر ومواطنها، ورجع أكثرهم إلى بيوت الله بعد أن خلت منهم، وصاروا يحافظون على الصلوات وملازمين لدروس الشيخ، وتخلى كثير منهم عن خرافات وعقائد الطرقية /غلاة الصوفية/، وتمكن العقبي بعلمه وأسلوبه وصدق لهجته من أن يجلب إليه كل طبقات المجتمع بما فيها طبقات المثقفين الثقافة الفرنسية من محامين وأطباء وغيرهم.
  لقد أثارت هذه النتائج قلق المستعمرين في الجزائر وخارجها حيث أصبحوا يرونه يشكل خطرا كبيرا على كيان فرنسا حتى وصفته أحدى الجرائد الفرنسية بالنبي الجديد، فسلكوا مع الشيخ سبلا شتى بغرض إسقاطه وضرب دعوته، فكان أولها سبيل الإغراء حيث عرض عليه منصب الإفتاء فرفض آثر أن يكون عالما حرا يجهر بالحق ويصدع به في كل زمان ومكان.
  ومن خططهم أن أصدروا المنشور القاضي بغلق المساجد في وجه غير الرسميين وذلك في 16 فبراير 1933، ويقول أبو القاسم سعد الله:«وفي 24منه (فبراير) إلى شهر مارس جرت مظاهرات عنيفة بالعاصمة ضد منع الشيخ العقبي من إلقاء درسه في الجامع الجديد وتدخل الحكومة في الشؤون الدينية، وقد استعملت السلطات قوات الشرطة والرماة السنيغاليين وقناصة إفريقية ضد المتظاهرين واعتقلت كثيرا منهم ، ولم تهدأ المظاهرات حتى وعدت السلطات بالسماح للعقبي باستئناف دروسه. وبعد استقالات جماعية للنواب والعاملين في المجالس المحلية في يوليو 1933 …قام السيد كارد الحاكم العام بمراجعة بعض القرارات منها إلغاء قرار والي مدينة الجزائر ضد الشيخ العقبي». فلم يكن ذلك القرار ليعيق الشيخ رحمه الله ولا ليحبطه فإنه واصل مجاهدا وداعيا حيث وجد الرجال الذين يحوطونه بمساندتهم وتشجيعهم ويقفون معه في الشدائد. 
  ولما انظم الشيخ إلى المؤتمر الإسلامي في 1936مع ابن باديس والإبراهيمي ولعب فيه دورا بارزا، بلغ الأمر بالنسبة إليهم منتهاه، فحيكت مؤامرة مقتل المفتي كحول لإحباط مسعى المؤتمر وإسقاط الشيخ العقبي. فدسوا له من قتله، ونفذ جريمته يوم 2أوت، وادعى أن الشيخ العقبي هو من حرضه على قتله مع صاحبه عباس التركي، فاعتقل العقبي ورفيقه وزج بهما في السجن يوم 8أوت، فاحتشدت الجماهير وتجمعت تلقائيا احتجاجا على اعتقال الشيخ وصاحبه فكادت تحدث فتنة عمياء لولا أن توجه إليها العلماء بأن يواجهوا الصدمة بالصبر والتزام الهدوء والسكينة فامتثل الناس، قال الإبراهيمي:« وكان هذا أول فشل للمكيدة ومدبريها». فقضي في السجن ستة أيام بلياليها، ثم إن الجاني تراجع عن تصريحاته بعد أن قابل الشيخ وأنكر أن تكون له علاقة به فأفرج عنه، ووضع تحت المراقبة مع إمكانية التوقيف عند الضرورة. ثم لم تفصل المحكمة في القضية إلا بعد ثلاث سنوات حيث تمت تبرئة العقبي وصاحبه نهائيا. 
  إن تلك المؤامرة كان لها الأثر الواضح على المؤتمر الذي انسحب بعض السياسيين منه، وأما الجمعية والشيخ العقبي فلم يؤثر فيهم ذلك بتاتا، بل كانوا يروون في هذا الحدث سببا في زيادة التفاف الناس حول الجمعية وتعاطفهم معها، وزادت من شهرتها وصداها في الجزائر وخارجها، قال ابن باديس:« ولكنها كانت في حقيقتها نعمة عظيمة لا يقوم بها الشكر». وكذلك العقبي فإنه ظل ثابتا لم يتغير ولم يضعف (كما قال دبوز)، قال الإبراهيمي:«ومن آثار هذه الحادثة على الأستاذ العقبي أنها طارت باسمه كل مطار ووسعت له دائرة الشهرة حتى فيما وراء البحار».
دوره في جمعية العلماء
  مع أن فكرة الجمعية ولدت في المدينة عندما التقى ابن باديس والإبراهيمي هناك عام 1913، فإن الشيخ العقبي كان ممن مهد لها ودعا إليها عبر صفحات الجرائد، بل ربما يكون أول من فعل ذلك في أكتوبر 1925 في جريدة المنتقد ، وقد الشيخ كان ممن حضر اجتماع قسنطينة عام 1928 الذي سماه محمد خير الدين اجتماع الرواد. وحضر المجلس التأسيسي للجمعية في نادي الترقي، وانتخب ضمن أعضاء مجلسها الإداري ، وعين نائب الكاتب العام، كما كان ممثل الجمعية في عمالة الجزائر . وكذلك تولى في ظل الجمعية رئاسة تحرير جرائدها السنة فالشريعة فالصراط، ثم جريدة البصائر من عددها الأول إلى العدد 83 الصادر في 30سبتمبر 1937م .
من أصول دعوته
الأصل الأول: ترتكز الدعوة الإصلاحية التي انتمى إليه الشيخ على الدعوة إلى توحيد الإله جل جلاله والتحذير من الشرك ومظاهره، هذا أمر اشتهر به الشيخ الطيب العقبي، إلى درجة ارتباط النهي عن مظاهر الشرك عند أكثر العامة في منطقة الوسط باسمه، وقد كان ذلك ظاهرا في خطبه ودروسه وفي كتابته التي كان يملأ بها الجرائد السيارة في ذلك الوقت، حيث كان يوضح هذا التوحيد الذي أرسل به خاتم النبيين  بدلائل الكتاب والسنة، ويخاطب العقول ويهز الفطرة، أيها الناس ما هذا الذي أنت واقعون فيه تعبدون الأشجار تعبدون الأحجار وترجعون إلى الموتى لقضاء حوائجكم، وتتركون الإله الواحد القهار، ومما كان يتميز به الشيخ رحمه الله أنه كان يحاور ويجيب عن الشبهات المثارة في وجوه دعاة التوحيد، وكان لذلك أثر كبير في استجابة للناس لدعوة الإصلاح، ومن ذلك تلك المقالات التي كان يبثها في الشهاب بعنوان:"يقولون وأقول "، ونصوص الشيخ التي خلف في هذا المضمار كثيرة جدا، ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقتصر على جزء من قصيدته الشهيرة إلى الدين الخالص حيث يقول فيها:
لا أنــادي صاحب القبــر أغث   **  أنت قطــب أنت غوث وسناد
  قائمــا أو قاعــدا أدعــو بـــه  **  إن ذا عنــدي شــرك وارتـداد
لا أناديـــه ولا أدعــو ســوى    ** خالـق الخلـق رؤوف بالعبـاد
مـن لــه أسماؤه الحسنى وهل    **  أحــد يدفــــع مــا الله أراد؟
مخلصــا ديني لـــه ممتثــلا أمــره لا أمــر من زاغ و حاد
الأصل الثاني : ومما عرف به الشيخ رحمه الله الدعوة إلى إحياء السنن وربط الأمة بكتاب الله تعالى وسنة النبي  ، هذا أمر سار عليه جميع دعاة الإصلاح في ذلك الزمان ، فكان دروسهم ومواعظهم التي يلقون مع اختلاف مواضيعها مرتبطة بكتاب الله تعالى، وما بحث في سيرة كل واحد منهم إلا وجدت موضوع دروسه هو التفسير ، تفسير كتاب الله تعالى الذي ابتعدت عنه أمة الإسلام فوقعت في مخالفة هدي النبي  وغرقت في أوحال البدع بل وفي مظاهر الشرك الذي لا يغفره المولى عز وجل، فكان منهج هؤلاء العلماء أن ربط الأمة بكتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. هو الذي ينير لها الطريق ويبصرها بالحال التي آلت إليها ، والشيخ العقبي رحمه الله كان من أشد رجال الجمعية حرصا على اتباع السنن ونهيا عن البدع، ومن الأصول التي كان يقررها ويعيدها:« أن لا نعبد إلا الله وحده وأن تكون عبادتنا له إلا بما شرعه وجاء من عنده » السنة (عدد2). ومنها قاعدة كمال الدين التي هي منطلق محاجة كل مبتدع مبدل البصائر (عدد3). وقال مبينا أن الابتداع مضاهاة لله تعالى في شرعه فقال:«وإذا كان التشريع لله وحده ، فليس لكائن من كان أن يشرع لنفسه أو لغير نفسه من الدين ما لم يأذن به الله مهما كانت مقاصده في هذا التشريع ومهما ادعى من ابتغاء قربة ووسيلة» ثم بين أنه لا ينفع هؤلاء المبتدعين أن تكون نية أحدهم حسنة، « لأن النية مهما كانت حسنة لا تغير من حقائق الأشياء » البصائر (عدد4). ومما تميز به نقد العقبي للطرقيين فضح مقاصدهم التي تبين أن كثيرا منهم لم تكن له شبهة دينية، وإنما الذي وجههم هذه الوجهة المخالفة للإصلاح والتي جعلتهم يرضون بالحال التي آلت إليها الأمة هو حب الدنيا والمال، وكان مما قال:
وشيخهم الأتقى الولي بزعمه   إذا ما رأى مالا أمال له عنقا
وذلك أقصى سؤله ومرامه     متى ناله أولاه من كيسه شقا 
أولئك عباد الدراهم ويلهم     سيمحقهم ربي وأموالهم محقا
الأصل الثالث: ومن الأمور التي ينبغي الوقوف عندها منهج الإصلاح الذي سار عليه الشيخ، وقد وضحه رحمه الله في افتتاحية العدد الأول من الإصلاح:« وأهم كل مهم وأولاه بالتقديم عندنا مسألة العقائد والكلام على تصحيحها، فلا إصلاح ولا صلاح إلا بتصحيحها، فقد أفسد الناس من أمرها ما أضر بالعامة وسرت العدوى منه حتى لبعض الخاصة والأعمال كلها نتيجة العقائد تصلح بصلاحها وتفسد بفسادها، وحسبنا قول أشرف المخلوقات  (إنما الأعمال بالنيات) وليس من الممكن جمع كلمة الأمة وتوحيد أفكارها ما دامت مختلفة في عقائدها متباينة في مشاربها وأهوائها، ولو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم». هذه الدعوة هي الدعوة المباركة التي تجمع أهل الإسلام وترص صفوفهم وتجعلهم أقوياء في مواجهة أعدائهم.
  وبهذا التقرير يظهر الجواب عن تساؤل مشهور لماذا لم يطالب العلماء بالاستقلال أول الأمر، فالقضية أن التحرر من الاستعمار المادي لابد أن يسبقه التحرر من الاستعمار الروحي، وأن تحرير الإنسان يسبق من دون شك تحرير الأرض، وقد أبان عن هذه المعنى في الخطاب الذي ألقاه في الملعب البلدي سنة 1936، حيث بين أن الأمة ما زالت بعيدة عن الاستقلال ما دامت لم تستقل في أفكارها وكل مقومات حياتها، وما دامت لا تقدر أن تحرر نفسها من ربقة بعض المرابطين واستعبادهم لها باسم الدين». 
  وبعد مرور الزمن وتقدم الدعوة لم يخف الشيخ مساندته لحزب الوحدة الجزائرية(1947) الداعي إلى الاستقلال التام، وتفضيله على الأحزاب الأخرى التي كانت تطالب بالاستقلال الذاتي أو الداخلي مع الارتباط بفرنسا. قرر في العام نفسه في جريدة الإصلاح (عدد51) أن الجزائر لا تختلف عن بقية الشعوب الطامحة إلى نيل الحرية والاستقلال وأنها أمة لها كل الذاتيات التي تميزها عن غيرها من تاريخ ولغة ودين. وفي عام 1953 وصرح للمنار بضرورة
اتحاد الأمة:« في سبيل تحرير أمتنا من الاستعمار».
الأصل الرابع : الإصلاح عند العقبي كان شموليا فلم يقتصر على المجال الديني وإن عنده مقدما بل كان متسعا لمجالات أخرى، كأعمال البر والإحسان، ولذلك فقد ترأس الجمعية الخيرية الإسلامية منذ تأسيسها عام 1933بالعاصمة، وكانت تعمل على إعانة الفقراء وإغاثة عابري السبيل، وقد توسع نشاطها عام 1939 إلى إيواء المسنين وتعليم الشباب والشابات الصناعات اليدوية، وفتح عيادة تقدم العلاج المجاني.
  وشملت دعوته الشباب الذين أسسوا في مطلع الخمسينات منظمة شباب الموحدين في نادي الترقي وكان الشيخ العقبي هو الأب الروحي لهذه المنظمة، التي كان شعارها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصدرت جريدة الداعي ثم جريدة اللواء، والتي كان من دعوتها طلب الحرية ومقاومة الاستعمار.
آثاره ووفاته
  قد ترك الشيخ العقبي آثارا كثيرة مكتوبة لو تتبعت وجمعت لجاءت في مجلدات، ومن آثاره تلاميذه الذين لا يعدون كثرة، ومنهم من برز وكان من العلماء ودعاة الإصلاح كفرحات بن الدراجي (ت1951) وعمر بن البسكري (ت1968)، ومحمد العيد آل خليفة (ت1979) وأبو بكر جابر الجزائري.
  بعد سنة 1953 مرض الشيخ وضعف، وكان قد أصيب بمرض السكر الذي ألزمه الفراش عام 1958 وأجبره على ترك نشاطاته. وفي مرضه هذا أوصى وصية اشتد في الإلحاح عليها، وهي لابد أنه لابد أن تشيع جنازته تشييعا سنيا بدون ذكر جهري، ولا قراءة البردة، ولا قراءة القرآن حال التجهيز أو حين الدفن وألا يؤذن بتأبينه قبل الدفن أو بعده، وتوفي الشيخ الطيب العقبي رحمه الله في 21ماي1961، وشيعت جنازته تشييعا سنيا ودفن في مقبرة ميرامار بالرايس حميدو، وكانت جنازة مهيبة حضرها حسب الجرائد في ذلك الوقت قرابة خمسة آلاف شخص.
هذا هو العقبي
  هذا هو العقبي الذي قال فيه الشيخ ابن باديس:« حياك الله وأيدك يا سيف السنة وعلم الموحدين ، وجازاك الله أحسن الجزاء عن نفسك وعن دينك وعن إخوانك السلفيين المصلحين ها نحن كلنا معك في موقفك صفا واحدا ندعو دعوتك ونباهل مباهلتك ونؤازرك لله وبالله». هذا هو العقبي الذي قال الشيخ الإبراهيمي في وصفه:« هو من أكبر الممثلين لهديها -أي الجمعية-وسيرتها والقائمين بدعوتها، بل هو أبعد رجالها صيتا في عالم الإصلاح الديني وأعلاهم صوتا في الدعوة إليه …وإنما خلق قوالا للحق أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر وقافا عند حدود دينه ، وإن شدته في الحق لا تعدو بيان الحق وعدم المداراة فيه وعدم المبالاة بمن يقف في سبيله»، هذا هو العقبي الذي قال فيه الشيخ أبو يعلى الزواوي:« العلامة السلفي الصالح داعية الإصلاح الديني ». هذا هو العقبي الذي عده أمير البيان شكيب أرسلان أحد حملة العرش الأدبي في الجزائر إضافة إلى الميلي وابن باديس والزاهري. هذا هو العقبي الذي قال فيه مفدي زكريا:«الأستاذ الأكبر العلامة أبو الجزائر الجديدة الشيخ سيدي الطيب العقبي». هذا هو العقبي الذي قال فيه أبو بكر الجزائري:« دروس الشيخ الطيب العقبي ما عرفت الدنيا نظيرها، ولا اكتحلت عين في الوجود بعالم كالعقبي
-----------------------------------
*الطرقية : هم غلاة ومتعصبي الصوفية . فمن الطرقيين  من كان في جمعية العلماء المسلمين وعلى علاقة طيبة بها.وممن جاهدوا المستعمر الفرنسي الغاشم فهذا المصطلح حين يوظف ليس فيه إطلاق .والله أعلم.
المصدر : من مقال في جريدة البصائر بعنوان:الشيخ الطيب العقبي ودعوته الإصلاحية
بتاريخ 25-3-1429 هـ ./بتصرف/

 

الاثنين، 14 سبتمبر 2009

العلامة : ابن العنابي

بسم الله الرحمن الرحيم

العلامة : ابن العنابي
عائلته، ميلاده، وفاته

محمد بن محمود بن محمد بن حسين عًرف بابن العنابي أو بالعنابي. من أسرة علمية و دينية معروفة، إذ شغل جده الأكبر شيخ الإسلام (حسين بن محمد) الإفتاء الحنفي، و هو منصب مهم جدا في تلك الآونة، إذ كان يعد من أهم المناصب في السلم الاداري. كما كان جده الأدنى (محمد بن حسين) عالما حظي بالتقدير الكبير من علماء عصره. وًلد سنة 1189 / 1775 م.

عصره

عاصر الثورة الفرنسية و ما نتج عنها من أحداث مست جوانب متعددة من الحضارة الإسلامية، وعاصر في بلاده الجزائر اعتداءات خارجية كثيرة قام بها الإنجليز، الأمريكان، الفرنسيين و الإسبان و غيرهم.

تكوينه و شيوخه
نعرف البعض من شيوخه
محمد بن حسين (ت 1203):


و هو جده، قرأ عليه القرآن الكريم وأخذ عنه تفسير والده حسين شيخ الإسلام (ت 1150 / )، و بعض الفقه الحنفي، سمع عليه قطعة من صحيح البخاري، و أجازه.محمود بن محمد (ت 1236 /)


و هو أبوه، قرأ وحفظ على يديه القرآن الكريم، و مبادئ العربية. كما تلقى عنه الفقه الحنفي، و يروي عنه أيضاً صحيحَ البخاري قراءة وسماعاً لجميعه، وأجازه.علي ابن الأمين (ت 1235/ م):


أبو الحسن علي بن عبد القادر بن الأمين مفتي المالكية، العالم العلامة، المؤلف المشارك، المتفنن الفاضل. درس بالأزهر الشريف و أخذ عن علمائه وشيوخه.

أخذ عنه الفقه المالكي و الحديث الشريف " ... فقرأ عليه صحيح البخاري سماعا لبعضه وأجازة بسائر مروياته عن شيخه أبي الحسن علي بن العربي السقاط المغربي عن شيخه محمد بن عبد الرحمن الفاسي صاحب المنح البادية في الاسانيد العالية، كما أجازه في الكتب الستة و موطأ الأمام مالك، و كتب القاضي عياض وتلقى عنه بعض المسلسلات.
حمودة بن محمد المقايسي الجزائري (ت 1245/):

درس على علماء الجزائر ثم اتجه إلى مصر حيث انتسب إلى الأزهر الشريف وتتلمذ على علمائه وشيوخه، وأجازوه بمروياتهم وكتبهم ومنهم مرتضي الزبيدي و محمد الأمير الصغير و حسن العطار و محمد الدسوقي و حجازي بن عبد المطلب العدوي، كما أذنوا له بالتدريس هناك، ثم انتقل إلى تونس إلا ان مقامه لم يطل بها، فعاد إلى بلاده الجزائر واشتغل بالتدريس. و كان يعيش من صناعة المقايس (و هي الأساور المعروفة في الجزائر بـ 'المْقَايَسْ'، مفردها مَقْيَاسْ أو مقياسة) و منه نسبته المقايسي. و قد مات فقيرا في الجزائر. و قد جمع المقايسي أسانيده في ثبت خاص يرويه عنه تلميذه ابن العنابي.
أبو عبد الله محمد صالح الرضوي البخاري السمرقندي (ت 1263/):

الإمام العارف المحدث المسند،الرحال. ولد في سمرقند، و رحل إلى بخارى طلبا للعلم، ثم انتقل إلى الهند واليمن والحجاز وتونس والجزائر ومصر والمغرب الأقصى وأخذ عنه ورزق سعدا في التلاميذ وإقبالا عظيما أخذ عنه بحيث عنه في كل بلد ومصر أعيانه وكباره ، ثم سكن المدينة المنورة [فهرس الفهارس: 1 / 432] أجاز ابن العنابي بالصحيحين و الكتب الستة والموطأ وفقه الحنفية وبعض المسلسلات ودلائل الخيرات.أحمد بن الكاهية الحنفي (ت )


أجازه في القراءات.


موقفه من الاحتلال الفرنسي للجزائر

عايش الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي سبقه خصار بحري لاإنساني دام ثلاث سنوات. فرأى و عايش كل ما يرافق أمثال هذع الأحداث من تقتيل إجرامي و تعذيب و طرد و نفي و تهديم للممتلكات و انتهاك للحرمات و تدنيس للمقدسات. حاول ما أمكنه إلزام قوات الاحتلال بما تقتضيه المعاهدة التي أمضاها الداي حسين و قائد قوات الاحتلال. إلا أن الاحتلال نفاه في الأخير بسبب موقفه من اغتصاب الاحتلال لأملاك الأوقاف.


وظائفه:

أما وظائفه فكان أولها منصب القضاء الحنفي, ولاه الداي أحمد باشا هذه الوظيفة بالإضافة إلى مهمة ثانية و هي الكتابة إلى باي تونس, ويختفي اسم ابن العنابيولا يعود إلا في عهد عمر باشا الذي كلفه (بسفارة للمغرب الأقصى) و بذلك (ينضح أن ابن العنابي لم يكن مجرد عالم بالفقه و ما إليه من علوم الدين, بل كان أيضا دبلوماسيا ناجحاً و خبيراً لشؤون الدول.و بعد هذه الفترة يكتنف حياته بعض الغموض, وقد أخذت وظيفة المفتي تتعرض إلى تقلبات خلال السنة الأولى من الاحتلال الفرنسي للجزائر. و قد أضحى ابن العنابي موضع شبهة من سلطات الاحتلال خاصة عندما أجبره كلوزيل على تسليم بعض المساجد لجعلها مستشفيات للجيش, و قد اتسمت لهجة ابن العنابي بالنقد للسلطات الفرنسية على خرقها للاتفاق الموقع بين الداي حسين باشا و الكونت دي بورمون مما جعل كلوزيل يضيق به ذرعاً, فاعتزم على وضع حد له, فتم إلقاء القبض عليه من طرف رجال الدرك و قادوه إلى السجن, كما أهينت أسرته بدعوى تدبير مؤامرة ضد الفرنسيين, و إعادة الحكم الإسلامي للجزائر ثم قرر كلوزيل نفيه من الجزائر في مهلة ضيقة, ولم يحصل له (حمدان خوجة) على مهلة عشرين يوما من أجل بيع أملاكه و تصفية ديونه إلا بصعوبة كبيرة, ثم ترك وطنه لآخر مرة قبل نهاية (1831 ميلادية) و انتهى إلى مصر, فأقام بالإسكندرية حيث ولاه محمد علي باشا وظيفة الفتوى الحنفية بهذه المدينة.


تدريسه و تلاميذه

وقد التف حول ابن العنابي تلاميذ و علماء من الأزهر بعد أن تصدر لتدريس الحديث و الفقه, فأجاز الكثيرين من تلاميذه في مصر و تونس و غيرهما, كما كانت له مراسلات كثيرة لكثرة مراسليه الذين يطلبون الرأي أو الفتوى أو الإجازة, أو غيرها من المراسلات الأدبية, كما اتسمت شخصيته بالروح الدينية و الفكر الاقتصادي, و السياسي, فكان له دوره الديني و السياسي, لعب دوره الأول و هو يباشر وظيفة الإفتاء و يتصدر للتدريس و يمنح الإجازات لتلاميذه و المعجبين بعلمه, أما الدور السياسي فيتمثل في صلته بدايات الجزائر و في موقفه من الاحتلال الفرنسي لبلاده, و هو الاحتلال الذي نفاه باعتباره عالماً منفياً لأسباب سياسية.

توفي ابن العنابي سنة 1851 ميلادية بمصر, وقد ترك العديد من المراسلات في العديد من المواضيع خاصة الدينية منها, وأشعارا, و كتبا, أهمها ( السعي المحمود في نظام الجنود), الذي قال عنه ابن العنابي (أن الأوروبيين نظموا جنودهم ليضروا بالإسلام و أهله, و أمام هذا الخطر الداهم, أصبح من المحتم على المسلمين أن يتعلموا منهم ما اخترعوه من صنائع و نظم) و هذا الكتاب مكون من أربعة عشر فصل, يتعلق بنظم الجيش و الأخذ بأسباب الحضارة


المراجع:
أبو القاسم سعد الله. ابن العنابي رائد التجديد الإسلامي. الشركة الوطنية للنشر و التوزيع، الجزائر، 1977 م.
عمر بن قينة. شخصيات جزائرية. الطبعة الأولى، 1983 م.


الأحد، 9 أغسطس 2009

الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله


الشيخ البشير الإبراهيمي

محمد البشير الإبراهيمي" في سطور

ولد في الجزائر سنة (1306هـ= 1889م).

· حفظ القرآن وتلقى العلوم الشرعية واللغوية على يد عمه "محمد المكي الإبراهيمي".

· رحل إلى المدينة المنورة سنة (1330هـ= 1912م)، واستكمل دراسته في الحرم المدني.

· سافر إلى دمشق، وألقى دروسًا في الجامع الأموي.

· عاد إلى وطنه سنة (1338هـ= 1920م)، ووضع يده في يد رفيق جهاده الشيخ "عبد الحميد بن باديس".

· أقام في سطيف وتحرك بين قراها ومدنها داعيًا للإسلام، وموقظًا للأمة.

· اشترك مع زميله "ابن باديس" في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة (1349هـ= 1931م) وتولى وكالتها.

· نفاه الفرنسيون إلى صحراء وهران بعد ازدياد نشاطه الدعوي بين الناس.

· تولى رئاسة الجمعية بعد وفاة "ابن باديس"، واستكمل ما قام به سلفه من إنشاء المدارس وبناء المساجد.

· أنشأ معهدًا ثانويًا لأول مرة باسم معهد "عبد الحميد بن باديس".

· رحل "البشير الإبراهيمي" إلى القاهرة، وأقام بها للدعاية للقضية الجزائرية والتعريف بها، والإشراف على الطلبة المبعوثين.

· عاد "البشير الإبراهيمي" إلى وطنه بعد الاستقلال، وأقام به حتى توفي سنة (1385هـ= 1965م).

توطئة:

توفي المجاهد الكبير "ابن باديس"، فارتجت الجزائر لرحيله، وكان معقد الآمال، ونعته الصحف في شتى ديار الإسلام، وأحس المسلمون بمرارة الفقد وعظم الخسارة، واتجهت الأنظار إلى من سيخلف الراحل ويملأ مكانه، ويحمل رايته ويسير على خطاه، والطريق شاق وعر.. فلما تسلَّم الراية "البشير الإبراهيمي" ليستكمل مسيرة الفقيد شعر الناس بالارتياح، فهو زميل جهاده ورفيق نضاله.. وحين اختاره العلماء رئيسًا لجمعيتهم كان بعيدًا منفيًا معتقلاً في الصحراء الوهرانية بقرار عسكري؛ لأن المحتل الفرنسي اعتبر وجوده طليق السراح خطرًا يتهدده.

المولد والنشأة:

ولد "محمد البشير الإبراهيمي" في قرية (أولاد إبراهيم) قرب "سطيف" غربي مدينة قسطنطينة الجزائرية في (13من شوال 1306هـ= 14 من يوليو 1889م)، ونشأ في بيت كريم من أعرق بيوتات الجزائر؛ حيث يعود بأصوله إلىالأدارسة العلويين من أمراء المغرب في أزهى عصوره.. حفظ "البشير" القرآن الكريم، ودرس علوم العربية على يد عمه الشيخ "محمد المكي الإبراهيمي"، وكان عالم الجزائر لوقته، انتهت إليه علوم النحو والصرف والفقه في الجزائر، وصار مرجع الناس وطلاب العلم، وقد عني بابن أخيه عنايةً فائقةً، وفتح له أبوابًا كثيرةً في العلم، حتى إنه ليحفظ قدرًا كبيرًا من متون اللغة، وعددًا من دواوين فحول الشعراء، ويقف على علوم البلاغة والفقه والأصول، لما مات عمه تصدَّر هو لتدريس ما تلقاه عليه لزملائه في الدراسة، وكان عمره أربعة عشر عامًا.

الرحلة إلى المدينة المنورة:

ولما بلغ "البشير" العشرين من عمره ولَّى وجهه نحو المدينة المنورة سنة (1330هـ= 1912م)؛ ليلحق بأبيه الذي سبقه بالهجرة إليها منذ أربع سنوات فرارًا من الاحتلال الفرنسي، ونزل في طريقه إلى القاهرة، ومكث بها ثلاثة أشهر، حضر فيها دروس بعض علماء الأزهر الكبار، من أمثال "سليم البشرى"، و"محمد نجيب المطيعي"، ويوسف الدجوي، وزار دار الدعوة والإرشاد التي أسسها الشيخ "رشيد رضا"، والتقي بالشاعرين الكبيرين "أحمد شوقي" و"حافظ إبراهيم".

وفي المدينة المنورة استكمل "البشير" العلم في حلقات الحرم النبوي، واتصل بعالمين كبيرين كان لهما أعظم الأثر في توجيهه وإرشاده، أما الأول فهو الشيخ "عبدالعزيز" الوزير التونسي، وأخذ عنه (موطأ مالك)، ولزم دروسه في الفقه المالكي، وأما الثاني فهو الشيخ "حسين أحمد الفيض آبادي الهندي"، وأخذ عنه شرح صحيح مسلم، واستثمر "البشير" وقته هناك، فطاف بمكتبات المدينة الشهيرة، مثل: مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، والسلطان محمود، ومكتبة آل المدني، ووجد في محفوظاتها الكثيرة ما أشبع نهمه العلمي.

وفي أثناء إقامته بالمدينة التقى بالشيخ "عبد الحميد بن باديس"، الذي كان قد قدم لأداء فريضة الحج، وقد ربطت بينهما المودة ووحدة الهدف برباط وثيق، وأخذا يتطلعان لوضع خطة تبعث الحياة في الأمة الإسلامية بالجزائر، وانضم إليهما "الطيب العقبي"؛ وهو عالم جزائري سبقهما في الهجرة إلى المدينة، والتقى الثلاثة في أيام متصلة ومناقشات جادة حول وضع الجزائر وسبل النهوض بها، فوضعوا الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

في دمشق الفيحاء:

عاد "ابن باديس" إلى الجزائر، وبدأ في برنامجه الإصلاحي، على حين أقام "البشير الإبراهيمي" في المدينة المنورة، وظل بها حتى سنة (1335هـ= 1916م)، ثم غادرها هو وأسرته إلى دمشق بعد أن أمرت الدولة العثمانية بترحيل سكان المدينة كلهم إلى دمشق؛ بسبب استفحال ثورة "الشريف حسين بن علي"، فخرج "البشير" مع والده إلى دمشق، وهناك تولى التدريس بالمدارس الأهلية، وألقى دروسًا في الجامع الأموي، واتصل به الأمير "فيصل بن الشريف حسين"، وطلب منه أن يعود إلى المدينة لإدارة وزارة المعارف، لكنه اعتذر عن قبول هذه المهمة، وآثر العودة إلى وطنه.

العودة إلى الوطن:

عاد "البشير الإبراهيمي" إلى الجزائر سنة (1338هـ= 1920م)، والتقى بصديقه "ابن باديس"، فرأى جهوده التعليمية قد أثمرت شبابًا ناهضًا، وأدرك أن ما قام به زميله هو حجر الأساس في إرساء نهضة الجزائر، فارتحل إلى (سطيف) ليصنع ما صنع رفيقه في قسطنطينة، بدأ في إلقاء الدروس العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، وتحرك بين القرى والمدن خطيبًا ومحاضرًا، فأيقظ العقول وبعث الحياة في النفوس التي أماتها الجهل والتخلف، ورأى الشيخ أن دروسه قد أثمرت، وأن الناس تتطلع إلى المزيد، فشجعه ذلك على إنشاء مدرسة يتدرب فيها الشباب على الخطابة والكتابة في الصحف، وقيادة الجماهير في الوقت الذي كان يتظاهر فيه المصلح اليقظ بالاشتغال بالتجارة؛ هربًا من ملاحقة الشرطة له ولزواره، وكان المحتل الفرنسي قد انتبه إلى خطورة ما يقوم به "البشير" ضد وجوده الغاصب، فعمل على تعويق حركته، وملاحقة أتباعه.

وكان المجاهدان "ابن باديس" و"الإبراهيمي" يتبادلان الزيارات؛ سواءً في قسطنطينة أو (سطيف)، ويتناقشان أمر الدعوة وخطط المستقبل، وتكوين جيل يؤمن بالعروبة والإسلام ويناهض الاستعمار عن طريق تربية إسلامية صحيحة.

وبارك الله في جهود المصلحين الكبيرين، فحين نادى "ابن باديس" بمقاطعة الاحتفال الذي ستقيمه فرنسا بمناسبة مرور مائة عام على الاحتلال، استجاب الشعب الجزائري لنداء "ابن باديس" عن طريق دعاته الذين اندسوا وسط الشعب، وأثاروا نخوته، فقاطعوا هذا الاحتفال الذي يهين الأمة الجزائرية ويعبث بمشاعرها وذكرى شهدائها.

• "البشير الإبراهيمي" وجمعية العلماء المسلمين:

أثار الاحتفال المئوي للاحتلال الفرنسي للجزائر سنة (1348هـ= 1930) حفيظة العلماء الجزائريين، فقام المصلحان الكبيران بإنشاء جمعية العلماء المسلمين، وعقد المؤتمر التأسيسي لهذه الجمعية في (17 من ذي الحجة 1349هـ= 5 من مايو 1931م) تحت شعار: "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا"، وانتخبت الجمعية "ابن باديس" رئيسًا لها، و"البشير الإبراهيمي" وكيلاً، وتقاسم أقطاب الحركة الإصلاحية المسئولية في المقاطعات الجزائرية الثلاث، وتولى "الإبراهيمي" مسئولية (تلمسان) العاصمة العلمية في الغرب الجزائري، واختص "ابن باديس" بالإشراف على مقاطعة قسطنطينة بما تضم من القرى والمدن، واختص الشيخ "الطيب العقبي" بالإشراف على مقاطعة الجزائر.

ونشط "الإبراهيمي" في (تلمسان)، وبث فيها روحًا جديدة، فكان يلقي عشرة دروس في اليوم الواحد، يبتدئها بدرس الحديث بعد صلاة الصبح، ويختمها بدرس التفسير بين المغرب والعشاء، ثم ينصرف بعد الصلاة الأخيرة إلى بعض النوادي الجامعة؛ ليلقي محاضرات في التاريخ الإسلامي، وكانت له جولات في القرى أيام العطل الأسبوعية، وينشط العزائم ويبعث الهمم في النفوس، وقد نتج من ذلك كله بناء أربعمائة مدرسة إسلامية، تضم مئات الآلاف من البنات والبنين، وبناء أكثر من مائتي مسجد للصلوات والمحاضرات.

وقد أقلق هذا النشاط العارم المستعمرين، وأدركوا عاقبة ذلك إن سكتوا عليه، فأسرعوا باعتقال "البشير" ونفيه إلى صحراء (وهران) سنة (1359هـ= 1940م)، وبعد أسبوع من اعتقاله توفي "ابن باديس"، واختاره العلماء رئيسًا لجمعيتهم، ولبث في منفاه ثلاث سنوات، ثم خُلي عنه عقيب انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة (1362هـ= 1943م).

رئاسة جمعية العلماء:

بعد خروجه من المنفى أعاد نشاط جمعية العلماء في بناء المساجد وتأسيس المدارس، وإصدار جريدة البصائر في سلسلتها الثانية بعد أن توقفت أثناء الحرب، وتولى رئاسة تحريرها، وكانت مقالاته الافتتاحية فيها نسيجًا فريدًا من نوعه في النبض العربي الإسلامي.

ولما تزايدت أعداد خريجي المدارس الابتدائية رأى "البشير الإبراهيمي" ضرورة الانتقال إلى المرحلة الثانوية، فدعا هو وزملاؤه العلماء الأمة الجزائرية إلى الاكتتاب في إنشاء معهدٍ ثانويٍّ، فاستجابت الأمة للدعوة، وأنشئ هذا المعهد الذي أطلق عليه معهد "عبدالحميد بن باديس" تخليدًا لذكراه، واستقبل المعهد طلابه في سنة (1367هـ= 1948م)، وكانوا ثمانمائة طالب، ثم تزايدت أعداد الطلاب بعد ذلك، ومن بين تلاميذ هذا المعهد كان دعاة الحركة التحريرية بالجزائر، حين تقدمت الوفود المؤمنة إلى معركة الاستقلال بحمية مشتعلة، ومن خريجيه تشكلت أولى البعثات العلمية الجزائرية إلى مصر والعراق وسوريا؛ حيث اعترفت بشهادة هذا المعهد جامعات الشرق العربي، وأصبح في وسع خريجيه الالتحاق بكلية دار العلوم والجامع الأزهر بالقاهرة، وجامعة بغداد وجامعة دمشق.

رحلة "البشير الإبراهيمي" إلى المشرق العربي:

غادر "الإبراهيمي" الجزائر العاصمة سنة (1371هـ= 1952م) متجهًا إلى المشرق العربي في رحلته الثانية التي دامت عشر سنوات حتى استقلال الجزائر سنة (1381هـ= 1962م)، وكانت جمعية العلماء قد كلفته القيام بهذه الرحلة لتحقيق ثلاثة أهداف:

· بذل المساعي لدى الحكومات العربية لقبول عدد من الطلاب الجزائريين الذين تخرجوا من معاهد جمعية العلماء في جامعاتها.

· طلب معونة مادية لجمعية العلماء لمساعدتها في النهوض برسالتها التعليمية.

· الدعاية لقضية الجزائر التي نجحت فرنسا في تضليل الرأي العام في المشرق بأوضاع المغرب عامةً والجزائر خاصةً.

واستقر بـ"الإبراهيمي" المقام في القاهرة، وشرع في الاتصال بمختلف الهيئات والمنظمات والشخصيات العربية الإسلامية في القاهرة وبغداد ودمشق والكويت، ونشط في التعريف بالجزائر من خلال المؤتمرات الصحفية، والمحاضرات العامة التي كان يلقي كثيرًا منها في المركز العام للإخوان المسلمين، وكان بيته في القاهرة ملتقى العلماء والأدباء وطلبة العلم.
وسبق وصول "البشير
" إلى القاهرة بعثة جمعية العلماء التي ضمت 25 طالبًا وطالبةً، وكانت بعثات الجمعية تقتصر على مصر وحدها للدراسة في الأزهر والمدارس المصرية، غير أن "البشير" تمكن من الحصول على عدد آخر من المنح التعليمية للطلاب الجزائريين في البلاد العربية الأخرى، واتخذ من القاهرة مقرًّا يشرف منه على شئون هذه البعثات في بغداد ودمشق والكويت، وكان يقوم بين الحين والآخر بزيارة هذه البلاد؛ لتفقد أحوال الطلاب الجزائريين والسعي لدى حكوماتها من أجل الحصول على منح جديدة.

وكان "الإبراهيمي" يعلق آمالاً واسعة على هؤلاء الطلبة المبعوثين، فلم يألُ جهدًا في تصحيحهم وإرشادهم وتذكيرهم بالوطن المستعمر، وبواجبهم نحو إحياء ثقافتهم العربية الإسلامية التي تحاربها فرنسا وتحاول النيل منها، وقد أثمرت جهوده التي بذلها تجاه هؤلاء المبعوثين عن نجاح ما يقرب من معظمهم في دراستهم الثانوية والجامعية، وساهموا في تحقيق الفكرة العربية الإسلامية التي كان يؤمن بها العلماء، وفي أثناء إقامته بالقاهرة اختير "الإبراهيمي" لعضوية مجمع اللغة العربية المصري سنة (1380هـ= 1961م).

• "الإبراهيمي" وقضايا العالم الإسلامي:

لم يقتصر وجود "البشير" على قضايا الجزائر، بل امتدت لتشمل كثيرًا من قضايا العالم الإسلامي، فاهتم بالقضية الفلسطينية، ودعا الأمة الجزائرية لصوم أسبوع في الشهر والتبرع بنفقاته لصالح فلسطين، وحمل على فرنسا؛ لموافقتها على قرار تقسيم فلسطين، وأعلن تضامنه مع جهاد المصريين سنة (1370هـ= 1951م) ضد الاحتلال الإنجليزي، ودعا العرب والمسلمين إلى تأييد مصر في جهادها، ودافع عن استقلال ليبيا، وطالب أهلها باتفاق الكلمة، وتوحيد الرأي وقوة الإيمان بالحق، وحذرهم من مكائد الاستعمار.

العودة بعد استقلال الجزائر:

ولما أعلن استقلال الجزائر عاد "البشير الإبراهيمي" إلى وطنه، خطب أول صلاة جمعة من مسجد (كتشاوة) بقلب العاصمة الجزائرية، وكان هذا المسجد قد حوله الفرنسيون إلى كتدرائية بعد احتلالهم الجزائر.

وقد نقلت الإذاعة خطبتي الجمعة إلى الأمة، فأعادت كلماته للكثيرين من رفاقه وغيرهم أعذب الذكريات، ولزم "الإبراهيمي" بيته بعد أن أثقلته السنون، وأوهنه المرض، وأحزنه تنكر البعض لجهاده وأثره في إحياء الأمة، وكانت مقاليد البلاد تجري في أيدي من تنكروا للإسلام وأداروا ظهورهم له، رأى الشيخ المجاهد أن ثمرة ما زرعه هو ورفاقه من العلماء قد وقع في كف من لا يقدرون قدرها.

وفاة "البشير الإبراهيمي":

بعد عودة الشيخ "البشير الإبراهيمي" لزم بيته، ولم يشارك في الحياة العامة بعد أن كبر سنه وضعفت صحته، حتى لاقى ربه يوم الخميس الموافق (18 من المحرم 1385هـ= 19 من مايو 1965م) بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، وخرجت الأمة تودعه بقلوب حزينة وأعين دامعة، تعبيرًا عن تقديرها لرجل من رجالات الإصلاح فيها، وأحد بناة نهضتها الحديثة.

مؤلفات "الإبراهيمي":

كان "البشير الإبراهيمي" واسع المعرفة شأنه، شأن السلف الأول من حملة الثقافة الإسلامية، فكتب في الأصول والتشريع الإسلامي، وألف في اللغة وقضاياها الدقيقة، وفي الأخلاق والفضائل الإسلامية، وهو كاتب بليغ ذو أسلوب بديع، يحمل نفس مجاهد وروح مصلح وخيال شاعر وقوة ثائر، وتشهد على ذلك مقالاته النارية التي كان يفتتح بها مجلته الشهرية (البصائر)، وله ملحمة رجزية نظمها في الفترة التي كان فيها مبعدًا في الصحراء (الوهرانية)، وهي تبلغ ستًا وثلاثين ألف بيت، تتضمن تاريخ الإسلام، ووصفًا لكثير من الفرق التي نشأت في عصره، ومحاورات أدبية بين الشيطان وأوليائه، ووصفًا للاستعمار ومكائده ودسائسه.

وهذا بيان بمؤلفات الشيخ التي لا يزال بعضها حبيسًا لم ير النور:

· عيون البصائر؛ وهى مجموعة مقالاته التي نشرت في جريدة (البصائر).

· النقابات والنفايات في لغة العرب؛ وهو أثر لغوي يجمع كل ما هو على وزن فعالة من مأثور الشيء ومرذوله.

· أسرار الضمائر العربية.

· التسمية بالمصدر.

· الصفات التي جاءت على وزن فعل.

· الاطراد والشذود في العربية.

· رواية كاهنة أوراس.

· حكمة مشروعية الزكاة.

· شعب الإيمان (في الأخلاق والفضائل الإسلامية).

· الملحمة الرجزية في التاريخ.

· فتاوى متناثرة.

· وقد طبعت أخيرًا مجموعة من مؤلفات "البشير" في خمسة مجلدات تحت عنوان "آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي"، وأصدرته دار الغرب الإسلامي.

أهم المراجع:

· أنور الجندي– الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا– الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة (1385هـ= 1965م).

· عبدالله العقيل– من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة– مكتبة المنار الإسلامية الكويت (1422هـ= 2001م).

محمد رجب البيومي – النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين– دار القلم – دمشق (1415هـ= 1995م).

· المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية– موسوعة الحضارة الإسلامية– عمان– الأردن.

· محمد مهدي علام– المجمعيون في خمسين عامًا– القاهرة (1406هـ= 1986م).

· نبيل أحمد بلاسي – الاتجاه العربي والإسلامي ودوره في تحرير الجزائر – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة (1990م).