بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ الفضيل الورتيلاني
الشخصية في سطور:
ولد "الفضيل الورتلاني" في الجزائر سنة 1323هـ = 1906م.
نشأ في أسرة كريمة، وحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة.
تلقَّى تعليمه في المدارس التي افتتحها المصلح الجزائري "عبد الحميد بن باديس" في مدينة قسنطينة.
أوفده "ابن باديس" إلى فرنسا ليكون مندوبًا عن جمعية علماء المسلمين بالجزائر.
أقام في باريس عامين نجح خلالهما في إنشاء النوادي لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي، ومحاربة التحلل الخلقي في صفوف المغتربين الجزائريين.
هاجر إلى القاهرة سنة 1939م، وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وصار من أعضائها البارزين.
سافر إلى اليمن وكان وراء الحركة الدستورية التي أطاحت بحكم الإمام يحيى، لكن الحركة لم تنجح، وحُكِم على زعمائها بالإعدام.
هرب "الفضيل" من الحكم بالإعدام وتنقَّل بين عدة دول أوربية حتى استقر في بيروت.
رجع إلى القاهرة بعد قيام حركة الجيش المصري سنة 1952م، ولم تطل إقامته بها فغادرها سنة 1955م إلى بيروت؛ بسبب الأوضاع السيئة في البلاد.
وفي أثناء إقامته بالقاهرة قام بالتعريف بقضية بلاده التي تحتلها فرنسا وترتكب فيها أبشع الجرائم.
توفي الفضيل الورتلاني سنة 1378 هـ = 1959م.
• الفضيل الورتلاني:
(1323 – 1378 هـ = 1906 – 1959م)
هناك نماذج قليلة من أبطال التاريخ من صنعت تاريخًا وأقامت دولاً، وأحيت نفوسًا دون أن يكون لها سند من منصب أو مال أو سلطة وأعوان، وإنما تملك مواهب نادرة من التأثير النافذ في القلوب والقدرة على التنظيم الدقيق، وحسن اختيار الأنصار، وتحمل المشاق دون تعب وكلل، ومن هؤلاء مؤسسو دول مثل "عبد الرحمن الداخل" الذي فر هاربًا من العباسيين، وانتقل من بلد إلى آخر متنكرًا؛ حتى استقر في الأندلس، ونجح أن يقيم الدولة الأموية في الأندلس، ومنهم أصحاب الدعوات ورجال الإصلاح مثل: "جمال الدين الأفغاني" الذي أحيا النفوس، وأيقظ القلوب الغافلة ونبَّه النائمين، وأوقد شعلة الحرية أينما حلَّ في العالم الإسلامي، والإمام الشهيد "حسن البنا" الذي قرن القول بالعمل، ومزج بين الدعوة والتطبيق، وجمع الناس حول الإسلام، وكشف لهم عما غاب عنهم في حياتهم، وقد جذبت شخصيته الفذة عددًا من النابغين فالتفوا حوله وتأثروا به، وكان من بينهم "الفضيل الورتلاني" وهو مصلح جزائري قدم إلى القاهرة، واتصل بجماعة الإخوان المسلمين، وصار من أعضائها، وكان قويَّ التأثير فيمن حوله، قادرًا على التغيير في أي مكان يحلّ به، لمَّاح الذكاء، سريع الحركة، كثير المعارف، يرى العالم الإسلامي كله وحدة لا تتجزأ، وأنه مطالب بتحرير كل جزءٍ منه.
• النشأة والتكوين:
ولد "إبراهيم بن مصطفى الجزائري"- المعروف بـ"الفضيل الورتلاني"- في 11 من ذي الحجة 1323 هـ = 6 من فبراير 1906م" في بلدة بني ورتلان شرقي الجزائر، وإليها انتسب، وجاءت شهرته بالورتلاني، ونشأ في أسرة كريمة لها اتصال بالعلم، فجدُّه الشيخ "حسين الورتلاني" كان من العلماء المعروفين في منطقته.
ومثل غيره من طلبة العلم حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودرس علوم اللغة العربية على علماء بلدته، ثم انتقل إلى مدينة قسطنطينة حيث استكمل دراسته على يد العلامة الشيخ "عبد الحميد بن باديس" الذي أسس جمعية علماء المسلمين الجزائريين سنة 1350 هـ = 1931م، وأقام حركة علمية، وأنشأ سلسلة من المدارس، وأيقظ الوعي في نفوس الجزائريين.
وفي مدرسة "ابن باديس" تلقى دروسه في التفسير والحديث والتاريخ الإسلامي، والأدب العربي، وتأثر بشيخه المصلح الكبير وبطريقته في الإصلاح، وغيْرته على المسلمين.
• الرحلة إلى باريس:
ولم يكن الشيخ "ابن باديس" يقصر دعوته على إصلاح حال الجزائريين في بلادهم، بل امتد بصره إلى المغتربين في فرنسا من الجزائريين، ورأى أن من أوجب واجبات الجمعية أن تحمي إسلام هؤلاء من الضياع، وأن تتولى تربية النشء الجديد قبل أن تلتهمه الحياة الفرنسية، ونظر حوله فلم يجد أكفأ من "الفضيل الورتلاني" للقيام بهذه المهمة الشاقة التي تتطلب؛ إيمانًا بالقضية وإخلاصًا لها، ورغبة في الإصلاح والتغيير.
نزل "الفضيل" فرنسا سنة "1355 هـ = 1936م" مبعوثًا عن الجمعية، وأقام في باريس، وبدأ نشاطه المكثف بهمة عالية، واتصل بالعمال والطلبة الجزائريين بفرنسا، وأخذ في إنشاء النوادي لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي ومحاربة الرذيلة والانحلال في أوساط المسلمين المقيمين بفرنسا، واستطاع خلال عامين أن يفتح كثيرًا من النوادي الثقافية في باريس وضواحيها وبعض المدن الفرنسية الأخرى.
وانتهز فرصة وجوده في باريس فاتصل بالدارسين العرب في الجامعات الفرنسية، وتوثفت بينهم المودة والصلة، مثل العلامة "محمد عبد الله دراز" صاحب كتاب (دستور الأخلاق في القرآن الكريم)، والشيخ "عبد الرحمن تاج" الذي صار شيخًا للأزهر، والعلامة السوري "محمد عبد القادر المبارك"، والشاعر "عمر بهاء الدين الأميري".
وقد أقلق هذا النشاط السلطات الفرنسية فضيقت على "الفضيل الورتلاني" حركته، وجاءته رسائل تهدده بالقتل، فاضطُّر إلى مغادرة فرنسا إلى إيطاليا ومنها إلى القاهرة.
• نشاطه في القاهرة:
نزل "الفضيل" إلى القاهرة سنة 1358 هـ = 1939م، وكانت آنذاك تموج بحركة إسلامية نشطة يقوم عليها الإمام "حسن البنا"، فاتصل به "الفضيل الورتلاني" وكان الإمام "البنا" يقدِّر جهود الشيخ "ابن باديس"، ويتابع جهوده في الجزائر، وبلغ من إعجابه به "أنه حين أسس مجلة فكرية أطلق عليها "الشهاب" تيمُّنًا بمجلة "الشهاب"- التي أصدرها الشيخ "ابن باديس"-، وسرعان ما توثقت الصلة بينه وبين الإمام "حسن البنا"، وانتهت بانضمام "الفضيل الورتلاني" إلى جماعة الإخوان، وصار عضوًا بارزًا بها؛ نظرًا لملكاته الخطابية وقدرته على الإقناع، وكان من تقدير الإمام البنا للورتلاني أنه كان ينوب عنه حين يكون غائبًا عن القاهرة في إلقاء حديث الثلاثاء بالمركز العام لجماعة الإخوان.
ولم ينس "الفضيل" العمل من أجل بلاده التي ترسف في أغلال المحتل الفرنسي، فقام بجهود جبارة للتعريف بقضية الجزائر وبطش الاستعمار بها، وفي سبيل ذلك شارك في تأسيس عدة جمعيات خيرية وسياسية، مثل: اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، وجمعية الجالية الجزائرية سنة 1361 هـ = 1942م، وجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا سنة 1363هـ = 1944م، وكان هو أمينها العام، وضمَّت في عضويتها الشيخ "محمد الخضر حسين"، والأمير "عبد الكريم الخطابي المغربي".
وقد أثمرت جهود "الورتلاني" فأصبحت قضية الجزائر من المحاور الرئيسية في الخُطَب والمحاضرات والندوات، وتبرَّع الناس بأموالهم لمساندة المجاهدين في الجزائر.
• "الفضيل الورتلاني" يحرِّك الثورة في اليمن:
وامتد نشاط "الورتلاني" إلى مساندة الأحرار في اليمن، وكانت البلاد تموج بحركة معارضة قوية، ورغبة طموحة في الإصلاح والتغيير، وكان الإمام "البنا" على علم بما يجري في اليمن، ومِن تطلُّع إلى الخروج بالبلاد من عزلتها وفقرها وجهلها، فأوفد "الفضيل الورتلاني" إلى هناك.
وكانت المعارضة شديدة، وتضم بعض أبناء البيوتات الكبيرة، لكنها كانت بلا تنظيم، واتجاهات زعمائها مختلفة، والراغبون في الإصلاح لا تجمعهم رابطة، فلما نزل "الفضيل الورتلاني" اليمن سنة 1366 هـ = 1947م نجح في توحيد صفوف المعارضة، وإزالة الخلاف بينهم، وبدأ في تهيئة الناس للتغيير بخطبه الحماسية التي تلهب المشاعر وتوقد الحماسة في الصدور.
وفي ربيع الآخر 1367 هـ = فبراير 1948م نجحت المعارضة في الوصول إلى الحكم بعد إزاحة الإمام "يحيى"، وأخذت البيعة لـ"عبد الله بن الوزير" زعيم المعارضة، وتولى "جميل جمال"- وهو عراقي الجنسية- قيادة الجيش والشرطة والداخلية، وتشكل مجلس للشورى، يتكون من60 عضوًا من أبناء الأسرة الحاكمة والبيوتات الكبيرة في اليمن، كما اشترك فيه "الورتلاني"..، الأمر الذي يدل على أن اتجاه حركة المعارضة كان عربيًا إسلاميًا، وحاول القائمون على الحركة الحصول على تأييد الجامعة العربية والاعتراف بشرعيتهم في الحكم، لكن مجلس الجامعة التزم الحياد في هذا النزاع، وقرر عدم السماح لأية دولة عربية أو أجنبية بالتدخل، وأرسل وفدًا لتقصِّي الحقائق.
وأرسل "ابن الوزير" وفدًا برئاسة "الورتلاني" لإقناع "ابن سعود"- ملك السعودية- بالاعتراف بالحركة، لكن الملك رفض الاعتراف، ووقف إلى جانب "أحمد بن الإمام يحيى" ولي العهد.
واستطاع ولي العهد أن يجمع حوله جيشًا قبليًا كبيرًا العدد، وأن يهزم أنصار الحركة الثورية، ولم يحلّ 3 من جمادى الآخر 1367 هـ = 14 من مارس 1948م حتى كانت صنعاء قد استسلمت دون مقاومة كبيرة، ولم يزد عمر الحركة عن بضعة وعشرين يومًا، وقد أعدم كثير من زعماء المعارضة، ونجح "الورتلاني" في الهرب من اليمن بعد أن صدر الحكم بإعدامه، وتنقل في عدة دول أوربية، ورفضت الدول العربية استقباله حتى وافقت لبنان على استقباله، شريطةَ أن يكون الأمر سرًا.
• العودة إلى مصر:
وبعد قيام حركة الجيش بالإطاحة بالملك "فاروق" عاد "الورتلاني" إلى مصر بعد غياب عدة سنوات، واستقبله العلماء والسياسيون استقبالاً حسنًا؛ نظرًا لماضيه المشرِّف في الجهاد، وحيَّاه الشاعر الكبير "علي أحمد باكثير" بقصيدة، منها:
أَفُضيْلُ هَذِي مصرُ تَحتفِل بِلِقاكَ فانعَم أيُّها البَطَـل
أَمْسَيتَ لا أهل ولا وطن وغدوت لا سفر ولا نزل
لم تقترف جرمًا تدانُ به كلاَّ ولكنْ هكذا البـطل
وعاد "الفضيل" إلى جهاده، ومؤازرة الثورة الجزائرية التي اشتعلت على أرض بلاده في سنة 1374 هـ = 1954م، وأصدر بيانًا مع المجاهد الكبير الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي"- رئيس جمعية علماء المسلمين- بعنوان: "نُعيذكم بالله أن تتراجعوا"، وشارك في تأسيس جبهة تحرير الجزائر سنة 1375 هـ = 1955م، وكانت تضم الشيخ "الإبراهيمي"، وممثلي جبهة التحرير مثل "أحمد بن بيلا" و"حسين آية أحمد"، وبعض ممثلي الأحزاب الجزائرية.
ولم تَطُل مدة إقامة "الفضيل الورتلاني" بالقاهرة، فقد غادرها إلى بيروت سنة 1375هـ = 1955م، وكانت الأمور في مصر تسير نحو الاستبداد بعد أن انفرد "جمال عبد الناصر" بمقاليد الأمور، وألقى بأعضاء جماعة الإخوان في غياهب السجون.
• وفاته:
كان "الورتلاني" من الرجال الذين تشغلهم القضايا الكبرى عن نفسه، وربما وصل الليل بالنهار في عمل دائم، دون أن يذوق طعامًا، شأنه في ذلك شأن أصحاب الدعوات، وقد أدى ذلك إلى اختلال في صحته، وتعرُّضه لأمراض خطيرة، لكنَّ ذلك لم يمنعه من الحركة والعمل في سبيل الدعوة، حتى لقي ربه في إحدى مستشفيات مدينة "أنقرة" في 2 من رمضان 1387 هـ = 12 من مارس 1959م، ثم نقل رفاته بعد سنوات ودفن في مسقط رأسه بالجزائر.
• أهم المراجع:
محمود عبد الحليم – الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ – دار الدعوة – الإسكندرية – 1979م.
فتحي يكن وآخرون – الموسوعة الحركية – مؤسسة الرسالة – بيروت – 1400 هـ = 1980م.
عبد الله العقيل – من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة – مكتبة المنار الإسلامية – الكويت – 1422 هـ = 2001م.
صلاح العقاد – المشرق العربي المعاصر – مكتبة الأنجلة المصرية –القاهرة–1979م.
ولد "الفضيل الورتلاني" في الجزائر سنة 1323هـ = 1906م.
نشأ في أسرة كريمة، وحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة.
تلقَّى تعليمه في المدارس التي افتتحها المصلح الجزائري "عبد الحميد بن باديس" في مدينة قسنطينة.
أوفده "ابن باديس" إلى فرنسا ليكون مندوبًا عن جمعية علماء المسلمين بالجزائر.
أقام في باريس عامين نجح خلالهما في إنشاء النوادي لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي، ومحاربة التحلل الخلقي في صفوف المغتربين الجزائريين.
هاجر إلى القاهرة سنة 1939م، وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وصار من أعضائها البارزين.
سافر إلى اليمن وكان وراء الحركة الدستورية التي أطاحت بحكم الإمام يحيى، لكن الحركة لم تنجح، وحُكِم على زعمائها بالإعدام.
هرب "الفضيل" من الحكم بالإعدام وتنقَّل بين عدة دول أوربية حتى استقر في بيروت.
رجع إلى القاهرة بعد قيام حركة الجيش المصري سنة 1952م، ولم تطل إقامته بها فغادرها سنة 1955م إلى بيروت؛ بسبب الأوضاع السيئة في البلاد.
وفي أثناء إقامته بالقاهرة قام بالتعريف بقضية بلاده التي تحتلها فرنسا وترتكب فيها أبشع الجرائم.
توفي الفضيل الورتلاني سنة 1378 هـ = 1959م.
• الفضيل الورتلاني:
(1323 – 1378 هـ = 1906 – 1959م)
هناك نماذج قليلة من أبطال التاريخ من صنعت تاريخًا وأقامت دولاً، وأحيت نفوسًا دون أن يكون لها سند من منصب أو مال أو سلطة وأعوان، وإنما تملك مواهب نادرة من التأثير النافذ في القلوب والقدرة على التنظيم الدقيق، وحسن اختيار الأنصار، وتحمل المشاق دون تعب وكلل، ومن هؤلاء مؤسسو دول مثل "عبد الرحمن الداخل" الذي فر هاربًا من العباسيين، وانتقل من بلد إلى آخر متنكرًا؛ حتى استقر في الأندلس، ونجح أن يقيم الدولة الأموية في الأندلس، ومنهم أصحاب الدعوات ورجال الإصلاح مثل: "جمال الدين الأفغاني" الذي أحيا النفوس، وأيقظ القلوب الغافلة ونبَّه النائمين، وأوقد شعلة الحرية أينما حلَّ في العالم الإسلامي، والإمام الشهيد "حسن البنا" الذي قرن القول بالعمل، ومزج بين الدعوة والتطبيق، وجمع الناس حول الإسلام، وكشف لهم عما غاب عنهم في حياتهم، وقد جذبت شخصيته الفذة عددًا من النابغين فالتفوا حوله وتأثروا به، وكان من بينهم "الفضيل الورتلاني" وهو مصلح جزائري قدم إلى القاهرة، واتصل بجماعة الإخوان المسلمين، وصار من أعضائها، وكان قويَّ التأثير فيمن حوله، قادرًا على التغيير في أي مكان يحلّ به، لمَّاح الذكاء، سريع الحركة، كثير المعارف، يرى العالم الإسلامي كله وحدة لا تتجزأ، وأنه مطالب بتحرير كل جزءٍ منه.
• النشأة والتكوين:
ولد "إبراهيم بن مصطفى الجزائري"- المعروف بـ"الفضيل الورتلاني"- في 11 من ذي الحجة 1323 هـ = 6 من فبراير 1906م" في بلدة بني ورتلان شرقي الجزائر، وإليها انتسب، وجاءت شهرته بالورتلاني، ونشأ في أسرة كريمة لها اتصال بالعلم، فجدُّه الشيخ "حسين الورتلاني" كان من العلماء المعروفين في منطقته.
ومثل غيره من طلبة العلم حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودرس علوم اللغة العربية على علماء بلدته، ثم انتقل إلى مدينة قسطنطينة حيث استكمل دراسته على يد العلامة الشيخ "عبد الحميد بن باديس" الذي أسس جمعية علماء المسلمين الجزائريين سنة 1350 هـ = 1931م، وأقام حركة علمية، وأنشأ سلسلة من المدارس، وأيقظ الوعي في نفوس الجزائريين.
وفي مدرسة "ابن باديس" تلقى دروسه في التفسير والحديث والتاريخ الإسلامي، والأدب العربي، وتأثر بشيخه المصلح الكبير وبطريقته في الإصلاح، وغيْرته على المسلمين.
• الرحلة إلى باريس:
ولم يكن الشيخ "ابن باديس" يقصر دعوته على إصلاح حال الجزائريين في بلادهم، بل امتد بصره إلى المغتربين في فرنسا من الجزائريين، ورأى أن من أوجب واجبات الجمعية أن تحمي إسلام هؤلاء من الضياع، وأن تتولى تربية النشء الجديد قبل أن تلتهمه الحياة الفرنسية، ونظر حوله فلم يجد أكفأ من "الفضيل الورتلاني" للقيام بهذه المهمة الشاقة التي تتطلب؛ إيمانًا بالقضية وإخلاصًا لها، ورغبة في الإصلاح والتغيير.
نزل "الفضيل" فرنسا سنة "1355 هـ = 1936م" مبعوثًا عن الجمعية، وأقام في باريس، وبدأ نشاطه المكثف بهمة عالية، واتصل بالعمال والطلبة الجزائريين بفرنسا، وأخذ في إنشاء النوادي لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي ومحاربة الرذيلة والانحلال في أوساط المسلمين المقيمين بفرنسا، واستطاع خلال عامين أن يفتح كثيرًا من النوادي الثقافية في باريس وضواحيها وبعض المدن الفرنسية الأخرى.
وانتهز فرصة وجوده في باريس فاتصل بالدارسين العرب في الجامعات الفرنسية، وتوثفت بينهم المودة والصلة، مثل العلامة "محمد عبد الله دراز" صاحب كتاب (دستور الأخلاق في القرآن الكريم)، والشيخ "عبد الرحمن تاج" الذي صار شيخًا للأزهر، والعلامة السوري "محمد عبد القادر المبارك"، والشاعر "عمر بهاء الدين الأميري".
وقد أقلق هذا النشاط السلطات الفرنسية فضيقت على "الفضيل الورتلاني" حركته، وجاءته رسائل تهدده بالقتل، فاضطُّر إلى مغادرة فرنسا إلى إيطاليا ومنها إلى القاهرة.
• نشاطه في القاهرة:
نزل "الفضيل" إلى القاهرة سنة 1358 هـ = 1939م، وكانت آنذاك تموج بحركة إسلامية نشطة يقوم عليها الإمام "حسن البنا"، فاتصل به "الفضيل الورتلاني" وكان الإمام "البنا" يقدِّر جهود الشيخ "ابن باديس"، ويتابع جهوده في الجزائر، وبلغ من إعجابه به "أنه حين أسس مجلة فكرية أطلق عليها "الشهاب" تيمُّنًا بمجلة "الشهاب"- التي أصدرها الشيخ "ابن باديس"-، وسرعان ما توثقت الصلة بينه وبين الإمام "حسن البنا"، وانتهت بانضمام "الفضيل الورتلاني" إلى جماعة الإخوان، وصار عضوًا بارزًا بها؛ نظرًا لملكاته الخطابية وقدرته على الإقناع، وكان من تقدير الإمام البنا للورتلاني أنه كان ينوب عنه حين يكون غائبًا عن القاهرة في إلقاء حديث الثلاثاء بالمركز العام لجماعة الإخوان.
ولم ينس "الفضيل" العمل من أجل بلاده التي ترسف في أغلال المحتل الفرنسي، فقام بجهود جبارة للتعريف بقضية الجزائر وبطش الاستعمار بها، وفي سبيل ذلك شارك في تأسيس عدة جمعيات خيرية وسياسية، مثل: اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، وجمعية الجالية الجزائرية سنة 1361 هـ = 1942م، وجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا سنة 1363هـ = 1944م، وكان هو أمينها العام، وضمَّت في عضويتها الشيخ "محمد الخضر حسين"، والأمير "عبد الكريم الخطابي المغربي".
وقد أثمرت جهود "الورتلاني" فأصبحت قضية الجزائر من المحاور الرئيسية في الخُطَب والمحاضرات والندوات، وتبرَّع الناس بأموالهم لمساندة المجاهدين في الجزائر.
• "الفضيل الورتلاني" يحرِّك الثورة في اليمن:
وامتد نشاط "الورتلاني" إلى مساندة الأحرار في اليمن، وكانت البلاد تموج بحركة معارضة قوية، ورغبة طموحة في الإصلاح والتغيير، وكان الإمام "البنا" على علم بما يجري في اليمن، ومِن تطلُّع إلى الخروج بالبلاد من عزلتها وفقرها وجهلها، فأوفد "الفضيل الورتلاني" إلى هناك.
وكانت المعارضة شديدة، وتضم بعض أبناء البيوتات الكبيرة، لكنها كانت بلا تنظيم، واتجاهات زعمائها مختلفة، والراغبون في الإصلاح لا تجمعهم رابطة، فلما نزل "الفضيل الورتلاني" اليمن سنة 1366 هـ = 1947م نجح في توحيد صفوف المعارضة، وإزالة الخلاف بينهم، وبدأ في تهيئة الناس للتغيير بخطبه الحماسية التي تلهب المشاعر وتوقد الحماسة في الصدور.
وفي ربيع الآخر 1367 هـ = فبراير 1948م نجحت المعارضة في الوصول إلى الحكم بعد إزاحة الإمام "يحيى"، وأخذت البيعة لـ"عبد الله بن الوزير" زعيم المعارضة، وتولى "جميل جمال"- وهو عراقي الجنسية- قيادة الجيش والشرطة والداخلية، وتشكل مجلس للشورى، يتكون من60 عضوًا من أبناء الأسرة الحاكمة والبيوتات الكبيرة في اليمن، كما اشترك فيه "الورتلاني"..، الأمر الذي يدل على أن اتجاه حركة المعارضة كان عربيًا إسلاميًا، وحاول القائمون على الحركة الحصول على تأييد الجامعة العربية والاعتراف بشرعيتهم في الحكم، لكن مجلس الجامعة التزم الحياد في هذا النزاع، وقرر عدم السماح لأية دولة عربية أو أجنبية بالتدخل، وأرسل وفدًا لتقصِّي الحقائق.
وأرسل "ابن الوزير" وفدًا برئاسة "الورتلاني" لإقناع "ابن سعود"- ملك السعودية- بالاعتراف بالحركة، لكن الملك رفض الاعتراف، ووقف إلى جانب "أحمد بن الإمام يحيى" ولي العهد.
واستطاع ولي العهد أن يجمع حوله جيشًا قبليًا كبيرًا العدد، وأن يهزم أنصار الحركة الثورية، ولم يحلّ 3 من جمادى الآخر 1367 هـ = 14 من مارس 1948م حتى كانت صنعاء قد استسلمت دون مقاومة كبيرة، ولم يزد عمر الحركة عن بضعة وعشرين يومًا، وقد أعدم كثير من زعماء المعارضة، ونجح "الورتلاني" في الهرب من اليمن بعد أن صدر الحكم بإعدامه، وتنقل في عدة دول أوربية، ورفضت الدول العربية استقباله حتى وافقت لبنان على استقباله، شريطةَ أن يكون الأمر سرًا.
• العودة إلى مصر:
وبعد قيام حركة الجيش بالإطاحة بالملك "فاروق" عاد "الورتلاني" إلى مصر بعد غياب عدة سنوات، واستقبله العلماء والسياسيون استقبالاً حسنًا؛ نظرًا لماضيه المشرِّف في الجهاد، وحيَّاه الشاعر الكبير "علي أحمد باكثير" بقصيدة، منها:
أَفُضيْلُ هَذِي مصرُ تَحتفِل بِلِقاكَ فانعَم أيُّها البَطَـل
أَمْسَيتَ لا أهل ولا وطن وغدوت لا سفر ولا نزل
لم تقترف جرمًا تدانُ به كلاَّ ولكنْ هكذا البـطل
وعاد "الفضيل" إلى جهاده، ومؤازرة الثورة الجزائرية التي اشتعلت على أرض بلاده في سنة 1374 هـ = 1954م، وأصدر بيانًا مع المجاهد الكبير الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي"- رئيس جمعية علماء المسلمين- بعنوان: "نُعيذكم بالله أن تتراجعوا"، وشارك في تأسيس جبهة تحرير الجزائر سنة 1375 هـ = 1955م، وكانت تضم الشيخ "الإبراهيمي"، وممثلي جبهة التحرير مثل "أحمد بن بيلا" و"حسين آية أحمد"، وبعض ممثلي الأحزاب الجزائرية.
ولم تَطُل مدة إقامة "الفضيل الورتلاني" بالقاهرة، فقد غادرها إلى بيروت سنة 1375هـ = 1955م، وكانت الأمور في مصر تسير نحو الاستبداد بعد أن انفرد "جمال عبد الناصر" بمقاليد الأمور، وألقى بأعضاء جماعة الإخوان في غياهب السجون.
• وفاته:
كان "الورتلاني" من الرجال الذين تشغلهم القضايا الكبرى عن نفسه، وربما وصل الليل بالنهار في عمل دائم، دون أن يذوق طعامًا، شأنه في ذلك شأن أصحاب الدعوات، وقد أدى ذلك إلى اختلال في صحته، وتعرُّضه لأمراض خطيرة، لكنَّ ذلك لم يمنعه من الحركة والعمل في سبيل الدعوة، حتى لقي ربه في إحدى مستشفيات مدينة "أنقرة" في 2 من رمضان 1387 هـ = 12 من مارس 1959م، ثم نقل رفاته بعد سنوات ودفن في مسقط رأسه بالجزائر.
• أهم المراجع:
محمود عبد الحليم – الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ – دار الدعوة – الإسكندرية – 1979م.
فتحي يكن وآخرون – الموسوعة الحركية – مؤسسة الرسالة – بيروت – 1400 هـ = 1980م.
عبد الله العقيل – من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة – مكتبة المنار الإسلامية – الكويت – 1422 هـ = 2001م.
صلاح العقاد – المشرق العربي المعاصر – مكتبة الأنجلة المصرية –القاهرة–1979م.